محبة النبي صلى الله عليه وسلم: الضوابط و الأسباب و الآداب

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد فإن الله سبحانه وتعالى شرط على المؤمنين في الإيمان محبة رسوله (ص) حبا شديدا، وجعل ذلك أصلا من أصول عقائد المسلمين، فقد صح عن النبي (ص) في الصحيحين من حديث أنس بن مالك وأبي هريرة رضي الله عنهما أنه قال: لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده ـ و في أحد الحديثين زيادة ـ والناس أجمعين، وكذلك في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله (ص) قال له حين قال له: يا رسول الله أنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي التي بين جنبي، فقال: لا حتى أكون أحب إليك من نفسك التي بين جنبيك،

وشرط رسول الله (ص) كذلك في الإيمان به محبة أنصاره، فقد صح عنه (ص) أنه قال: حب الأنصار من الإيمان، وكذلك شرط محبة أصحابه، فقد صح عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في المسند والمستدرك وغيرهما أنه قال: والذي فطر النسمة وبرأ الحبة لقد عهد إلي النبي الأمي ألا يحبني إلا مؤمن وألا يبغضني إلا منافق، ومحبة النبي (ص) إذا كانت ركنا من أركان الدين وشرطا من شروط الإيمان فيجب على كل إنسان أن يتعاهدها في نفسه وأن يعرفها، وأن يعرف ضوابطها وحدودها، فإن هذا النبي الأمي (ص)شرفه الله سبحانه وتعالى بأنواع التشريف، فقد اختاره من خلائقه فهو أفضل ما خلق الله من الخلائق، وقد اختاره اختيارا بشريا كذلك كما صح عن النبي (ص) في السنن بإسناد صحيح أنه قال: إن الله اصطفى من ولد آدم إبراهيم، واصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة واصطفى من كنانة قريشا واصطفى من قريش بني هاشم وجعلني من بني هاشم في المحل الأسنى فأنا خيار من خيار من خيار ولا فخر، وهذا الحديث يقتضي اصطفاءه واختياره من البشر كذلك، وتنقيته من الكدر، فلذلك يشمل هذا الاختيار التنقية الجسدية والتنقية القلبية والتنقية الخلقية، فقد نقاه الله سبحانه وتعالى من كل ما يكرهه ومن كل ما لا يرتضيه، كذلك فإن اختيار الله سبحانه وتعالى له مقتض على كل من أحب الله سبحانه وتعالى أن يحب من اختاره الله سبحانه وتعالى وشرفه بهذه المكانة، وكذلك فإن من دواعي المحبة الإنعامُ والإحسان، ولا شك أن النبي (ص) أكثر الناس إحسانا إلى الناس، فهو الذي يدخل في شفاعته يوم القيامة آدم ومن دونه إلى نهاية البشرية، فقد صح عن النبي (ص) أنه قال: إذا حشر الناس في الساهرة أتي بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام في كل زمام سبعون ألف ملك فتحيط بهم من كل جانب، وتدنو الشمس حتى تكون كالميل فوق رءوسهم، ويشتد العرق فمنهم من يصل إلى حقويه ومنهم من يصل إلى ثدييه ومنهم من يصل إلى ترقوتيه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاما، ويطُولُ بهم الموقف فيلجأون إلى العلماء، فيقول العلماء ليس اليوم لنا إنما هو للأنبياء، فيأتون آدم فيقولون يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيمينه ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته وجعلك خليفته في الأرض فاشفع لنا إلى ربنا إما إلى جنة وإما إلى نار، فيقول آدم: نفسي نفسي رب لا أسألك إلا نفسي، إن ربي غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإني عصيت الله فأكلت من الشجرة، ولكن اذهبوا إلى نوح فيأتونه فيقولون يا نوح أنت أبو البشر بعد آدم وأول الرسل إلى أهل الأرض فاشفع لنا إلى ربنا إما إلى جنة وإما إلى نار فيقول نوح: نفسي نفسي: رب لا أسألك إلا نفسي، إن ربي غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإني سألت الله ما لم يأذن لي به، ولكن اذهبوا إلى إبراهيم، فيأتون إبراهيم فيقولون: يا إبراهيم قد اصطفاك الله لِخُلَّته من بين خلقه، فاشفع لنا إلى ربنا إما إلى جنة وإما إلى نار، فيقول إبراهيم: نفسي نفسي رب لا أسألك إلا نفسي، إن ربي غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإني كذبت ثلاث كذبات، ولكن اذهبوا إلى موسى، فيأتونه فيقولون: يا موسى قد اصطفاك الله برسالاته وبكلامه فاشفع لنا إلى ربنا إما إلى جنة وإما إلى نار، فيقول موسى: نفسي نفسي رب لا أسألك إلا نفسي، إن ربي غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإني قتلت نفسا لم يؤذن لي بها، ولكن اذهبوا إلى عيسى، فيأتونه فيقولون يا عيسى أنت كلمة الله ألقاها إلى مريم وروح منه، فاشفع لنا إلى ربنا إما إلى جنة وإما إلى نار، فيقول عيسى نفسي نفسي رب لا أسألك إلا نفسي، إن ربي غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإني عُبِدتُّ من دون الله لا يجد أمرا يأثره إلا هذه، ولكن اذهبوا إلى محمد، فيذهبون إلى محمد (ص) فيقولون: يا محمد أنت آخر الرسل إلى أهل الأرض وأنت إمامهم، فاشفع لنا إلى ربنا إما إلى جنة وإما إلى نار، فيقول محمد (ص): أنا لها، فيخر ساجدا تحت العرش، وفي رواية راكعا تحت العرش، فيلهمه الله الثناء عليه بمحامد لا يحسنها ولا يحسنها أحد من أهل الدنيا، فيناديه فيقول: يا محمد ارفع رأسك واشفع تشفع واسأل تعطه فيشفع في الناس جميعا في مؤمنهم وكافرهم فيدخل في شفاعته الأنبياء جميعا وأتباعهم، وهذا هو المقام المحمود الذي وعده الله إياه في قوله: ﴿أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا، ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا﴾ وقد صح عنه (ص) أنه ذكر الدرجة الرفيعة المدخرة عند الله سبحانه وتعالى التي اختص الله بها عبدا من عباده قال: وأرجو أن أكون أنا هو، فحقق الله رجاءه، فمن كان هكذا يدخل في شفاعته الأولون والآخرون جميعا فهو أهل لأن يُحَب، كذلك هذه الأمة بالخصوص فليس لها خير إلا من طريق هذا الرسول (ص)، فهو دليلها إلى الله سبحانه وتعالى، وهو معلمها الخيرَ كلَّه، وقد صح عنه في صحيح البخاري أنه قال: ما يكن عندي من خير فلن أدخره عنكم، فلم يبق من خير إلا دلنا عليه ولا من شر إلا حذرنا منه، فهو أهل لأن يُحَبَّ من أجل إحسانه إلينا، كذلك الشفاعات الأخرى التي دون هذه وأنتم تعلمون أن الشفاعات ثمان، أعظمها الشفاعة الكبرى وهي التي ذكرناها في الخلائق جميعا من المحشر، وبعدها العرض على الله سبحانه وتعالى، ثم الشفاعة الصغرى وهي أصغر الشفاعات، وهي الشفاعة في كافر مات على الكفر ليخفف الله عنه عذابه فيوضع في ضحضاح من نار، أو أخمصاه على جَمْرَتَينِ من نار يغلي منهما دماغه، وهذا أخف أهل النار عذابا يوم القيامة، وهذه الشفاعة كذلك مختصة بسيدنا رسول الله (ص) وحده، فلا يحل لأحد أن يشفع في كافر مات لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر إلا هذا الرجل وحده يشفع فيه النبي (ص)، وجمهور أهل السنة على أن هذا الرجل هو أبو طالب عم النبي (ص)، الشفاعة الثالثة الشفاعة في إخراج أهل الإيمان من النار بعد أن نالوا حظهم منها، فإن الفساق يدخلون النار بفجورهم ويُخْرَجون منها بإيمانهم، كما صح في الصحيحين عن النبي (ص)أنه قال: يُخرَج من النار أقوام قد اسودوا أو امتحشوا فيلقون في نهر الحيا أو الحياة شك مالك، فتنبت أجسامهم كما تنبت الحبة في حميل السيل، وهذه الشفاعة ليست مختصة بالنبي (ص)، بل هي للأنبياء والملائكة والصالحين، وهي إكرام من الله تعالى لهم لأن الله سبحانه وتعالى كتب على هؤلاء حظهم من عذابه وعقوبته، وأراد تكريم أولئك بأن يشفعوا فيهم، ولا تمكن الشفاعة حينئذ إلا لمن أذن له، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه}وكما قال تعالى: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون﴾ وقال تعالى: ﴿وكم من ملك في السماوات و الأرض لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى﴾ فهذه الشفاعة لا تنفع إلا من أذن الله في الشفاعة له، النوع الرابع من الشفاعات: الشفاعة في بعض العصاة حتى لا يدخلوا النار وهم يستحقونها بسيئاتهم، فبعض العصاة يستحقون دخول النار بسيئاتهم ولكن الله يُشَفِّعُ فيهم الشافعين فتنفعهم شفاعة الشافعين، فتحول بينهم وبين النار بعد أن شاهدوا مقاعدهم منها نسأل الله السلامة والعافية، وهذه الشفاعة كذالك لا تختص بالنبي (ص) بل هي للأنبياء والملائكة والصالحين يُشَفِّعُهُم الله في أقوامهم، بل قد بين النبي (ص)أن من هذه الأمة أقواما يشفعون في مثل ربيعة ومضر في مثل القبيلتين العظيمتين في مثل ربيعة ومضر، الشفاعة الخامسة الشفاعة في المجازاة وهي أن أقواما يأتون يوم القيامة فتستحق حسناتهم بسبب إجرامهم وإسرافهم على أنفسهم، وذلك أن الذنوب ثلاثة أقسام، ذنب لا يغفر وهو الشرك بالله، وذنب في المشيئة إن شاء الله عذب به وإن شاء عفا عنه وهو حقوق الله المتمحضة، وذنب لا يترك وهو حقوق العباد، حتى لو غفر الله سبحانه وتعالى جانب المعصية في الذنب يبقى حق العبد لا بد من استيفائه عند الحَكَم العدْل الذي لا يظلم عنده أحد، وهذه الحقوق هي التي تمحل بالعباد فيأتي الرجل ومعه من الحسنات أمثال الجبال ولكنه قد استغرقت ذمته باعتدائه على الناس، ولذلك صح عن النبي (ص) أنه قال لأصحابه: «أتدرون من المفلس فيكم؟» قالو: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، قال: «بل المفلس من يأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال ويأتي وقد ضرب هذا وشتم هذا وأكل مال هذا وفي رواية وقتل هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، حتى إذا نفدت حسناته ألقي عليه من سيئاتهم ثم ألقي هو في النار» هؤلاء المفلسون تنفع بعضَهم شفاعة الشافعين يوم القيامة فيشفعون في المجازاة عنهم فيجازي الله خصومهم، فيدعو العبدَ فيقول لك يا عبدي على فلان كذا وكذا، هل يرضيك عنه أن أتجاوز عن سيئاتك، هل يرضيك عنه أن أدخلك الجنة، فيرضي الله سبحانه وتعالى أقواما عن هذه الحقوق فتقعَ المسامحة، وذلك الوقت لا بد فيه من أداء الحقوق كلها حتى يُقتاد للشاة الجَمَّاءِ من الشاة القرناء، الشياه الغنم غير المكلفة يؤتى بها في مثل ذلك الموقف حتى يقتاد للشاة الجَمَّاءِ أي التي لا قرن لها من الشاة القرناء التي نطحتها في الدنيا، فضلا عن البشر المكلفين، الشفاعة السادسة الشفاعة في دخول الجنة، فإن الناس إذا وضعت الموازين بالقسط ليوم القيامة توزن أعمالهم بمقاييس الذر، وبعد ذلك يعطَى أهلُ الإيمان كُتُبَهم بأيمانهم تلقاء وجوههم ويبيض الله وجوههم، ويعطى أهل السيئات كتبهم بشمائلهم تلقاء ظهورهم ويسود الله وجوههم، ويُضرب بين الطائفتين ﴿بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب﴾ ويعرف بعض أهل السيئات بعض أهل الإيمان كانوا يجاورونهم في الدنيا ويخالطونهم ويعرفونهم بأسمائهم وأنسابهم، ﴿فينادونهم ألم نكن معكم، قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور﴾ ولاحظوا الأعذارَ التي قالوها، قالوا: بلى قد كنتم معنا في الدنيا، ولكنكم فتنتم أنفسكم وفتنة النفس إنما تكون باتباع الهوى واتباع الشهوات، وتربصتم أي بأهل الإيمان فكنتم تكيدون لهم وتتمنون لهم المصائب فلذلك قال: وتربصتم، ثم قال: وارتبتم، أي شككتم في موعود الله الذي لا بد أن يتحقق، وهذه أخرت لأنها قاصمة الظهر، وغرتكم الأماني، فكثير من أصحاب الذنوب ينسون ذنوبهم ويظنون أنها قد غفرت، فهم يودون أن يعطوا صحفا منشرة فيها الحسنات وأن يمحى عنهم السيئات، ولكن الواقع أن هذا مثل تمني اليهود الذين قالوا إن لديهم عهدا من الله ألا يعذبهم إلا أياما معدودات، والله تعالى كذب هذا العهد في سورة البقرة وبين أنه من أباطيلهم التي لا طائل من ورائها، ﴿وقالوا: لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون﴾ فلذلك قال في هؤلاء: ﴿وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وهو الموت، وغركم بالله الغرور﴾ وهو الشيطان، ﴿فاليوم لا تؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير﴾ بعد هذا إذا نُصِب الصراط على متن جهنم يمر الناس عليه ويتفاوتون بحسب أعمالهم، فمنهم من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر كالريح المرسلة، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل والإبل، ومنهم من يمر كالرجل يشتد عدوا، ومنهم من يزحف على مقعدته، فناج مسلم، ومخدوش مرسل، ومكردس على وجهه في نار جهنم، فإذا نجا الناجون على الصراط ووصلوا إلى باب الجنة فأول من يكسى من حرير الجنة إبراهيم عليه السلام يكسى من الدَّيْبَاجِ الأبيض، وأول من يحرك حلْقة الباب نبينا محمد (ص) فيشفع لأهل الجنة في دخول الجنة، فإذا شفع شفَّعه الله ففتحت أبواب الجنة الثمانية، وينادَى من كل باب أصحابُه، فباب الصلاة ينادى منه أهل الصلاة، وباب الصدقة ينادى منه أهل الزكاة والصدقات، وباب اسمه الريان لا يدخل منه إلا الصائمون فإذا دخلوا منه أغلق فلم يدخل منه أحد، وباب الجهاد يدخل منه أهل الجهاد، وباب البر والصِّلَة يدخل منه أهلهما، وهكذا حتى تنتهي أبواب الجنة، ومن الناس من يدعى من جميع أبواب الجنة، ينادى باسمه من جميع أبواب الجنة الثمانية فيخير من أي باب شاء دخل، فهذه الشفاعة في دخول الجنة مختصة بنبينا محمد (ص)، ثم الشفاعة السابعة هي الشفاعة في رفع منزلة بعض أهل الجنة، لأن أهل الجنة إذا دخلوها منهم من يستحق أن يكون من أصحاب اليمين، ومنهم من يستحق أن يكون من المقربين، فالمقربون في الفردوس الأعلى من الجنة التي سقفها عرش الرحمن، ولذلك قال النبي (ص): «إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى من الجنة» وهي منزلة الأنبياء و الشهداء والصديقين والصالحين، ولذلك قال النبي (ص) لأم حارثة حين سألته عن ولدها قالت: أفي الجنة هو فأصبر أم في غير ذلك فترى ما أصنع؟ فقال: أوَ جنة هي؟ إنما هي جنان وابنك في الفردوس الأعلى منها، فأولئك الذين لا يستحقون الفردوس الأعلى من الجنة ولا يستحقون الدرجات العالية في الجنة تنفعهم شفاعة الشافعين فَتُعَلَّى منزلتهم وتُرَفَّع حتى يصلوا إلى المستوى الذي يرغبون فيه، وأهل الجنة يتراءون الغرف كما يتراءى أهل الأرض الكوكب الدُّرِّيَّ في السماء، من تباعد المنازل فيما بينهم، الشفاعة الثامنة الشفاعة بجمع الشمل للذين دخلوا الجنة من أهل الإيمان واستحق بعض ذرياتهم سواء كانوا من الآباء أو الأبناء دخولَ النار ولكنهم مع ذلك أهل إيمان فَيُشَفَّعون فيهم حتى يجتمع شملهم، وهذا من تنعيم الله لهم، فقد قال الله تعالى: ﴿والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين﴾ والذرية تطلق على الآباء والأبناء، فمن إطلاقها على الآباء قول الله تعالى في سفينة نوح عليه السلام: ﴿وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون وخلقنا لهم من مثله ما يركبون﴾ فالذريات التي حملت في سفينة نوح ليست بالذراري أي الأولاد وإنما هي الآباء، وإطلاق الذرية كذلك على من دون هذا مثل قول الله تعالى: ﴿ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون﴾ هؤلاء من ذرية إبراهيم أي من أولاده، فقوله: والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان هذا يشمل الآباء والأبناء، والذرية مشتقة من الذَّر وهو صغار النمل، والمقصود بذلك الصورة التي أخرج الله عليها ذرية آدم من ظهره حين مسحه ببطن نعمان فأخرج منه ذرية فقال: أي رب من هؤلاء؟ قال: خلق من ذريتك خلقتهم للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسحه فأخرج منه ذرية أخرى، فقال: أي رب من هؤلاء؟ قال: خلق من ذريتك خلقتهم للنار وبعمل أهل النار يعملون، فالصورة التي أخرجوا عليها إذ ذاك شبهت بالذر وهو النمل، فسمي ذلك العالم عالم الذر، وتعارفت فيه الأرواح كما صح عن النبي (ص) في الصحيحين أنه قال: الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف، والمقصود بالتعارف كما قال أهل العلم ما كان في عالم الذر، أي في ذلك الوقت وقت إخراج ذرية آدم من ظهره، هذه الشفاعة لا تختص بالنبي (ص)، بل هي لأهل الجنة عموما فيشفعون في ذراريهم وأقاربهم حتى يجتمع شملهم ويُلْحَقُ بهم من يعرفون من ذرياتهم وأقاربهم، إن من يشفع هذه الشفاعات العظيمة لمستحق للمحبة وكذلك فإن من أسس المحبة كمال الإنسان في ذاته حتى لو لم يحسن إليك والنبي (ص) هو أكمل البشر في خلقه وخلقه كما سيتبين بعد قليل إن شاء الله من ذكر شمائله فإذا كان كذلك فهو مستحق لأن يحب، إن المحبة أنواع، منها ما كان جزاء لإحسان: «أفادتكم النعماءُ مني ثلاثةً** يدي ولساني والضمير المحجبا» ومنها ما يكون على أساس الكمال،فأن يكون المحبوب كاملا في نفسه فإن ذلك مما يقتضي محبته وتعلُّقَ القلب به، وأكمل الناس محمد (ص)، بكل هذا نعرف أن النبي (ص) أهل للمحبة، بعد هذا نصل إلى ضوابط هذه المحبة: إن هذه المحبة التي شرعها الله سبحانه وتعالى وشرطها في الإيمان ليست هي مجرد الطاعة كما يتوهمه بعض الناس، بعض الناس يتوهم أن محبة النبي (ص) إنما هي باتباعه وطاعته، لكن الواقع خلاف ذلك بدليل ما ثبت عن النبي (ص) في الصحيح أن رجلا كان يلقب حمارا أو كان يدعى حمارا كان يشرب الخمر فيؤتى به النبي (ص) فيجلده في الخمر، فجلده ذات يوم، فقال رجل: لعنه الله لطالما أتي به رسول الله (ص) سكران، فقال النبي (ص): «لا تقل، إنه يحب الله ورسوله» هذا الرجل يحب الله ورسوله وهو يشرب الخمر فيؤتى به النبي (ص) سكران فيجلده، فدل هذا على أن المحبة ليست بمجرد الاتباع بل هي أمر عاطفي يتعدى ذلك، تعلُّقٌ قَلْبِيٌّ حتى لو وقع الإنسان في بعض التقصير، ومثل ذلك محبة الله سبحانه وتعالى ليست بالطاعة المحضة فقط، بل قد يكون الإنسان محبا لله سبحانه وتعالى ومع ذلك يقع في بعض الأحيان في معصية، فلذلك لا تنتفي المحبة بالمعصية ولكن ينتفي كمالها فقط، يقول الشيخ محمد عالي رحمه الله: «من ادعى محبة الله ولم** يسر على سنة سيد الأمم** فذاك كذاب أخو ملاهي** كذَّب دعواه كتاب الله** وهي من المخالفات قالوا** لا تنتفي بل ينتفي الكمال» فالمخالفات لا تنتفي بها المحبة إجمالا ولكن ينتفي كمالها، فيقع النقص في المحبة بقدر المعصية، وبهذا يتبين أن المحبة ليست من عمل الجوارح وإنما هي من عمل القلب والعاطفة، إن على الإنسان أن يستغل ما آتاه الله سبحانه وتعالى في شحنه بالإيمان، فآثر الإيمان في الجوارح الطاعات الظاهرة، وأثر الإيمان في العلم التصور والاستسلام، تصور ما أمر الله بتصوره في أركان الإيمان الستة والاستسلام لأمر الله سبحانه وتعالى، وأثر الإيمان في العاطفة هو المحبة والبغض، المحبة لله ولرسوله وللمؤمنين والبغض لأعداء الله سبحانه وتعالى، ومن جمعَ المحبة والبغضَ نال بهما حلاوة الإيمان، كما صح في الصحيحين عن النبي (ص) أنه قال: ثلاث من كن فيه نال بهن حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار، ولاحظوا أن الخصال الثلاثة إما حب وإما كره، فبذلك يعلم أن الجانب العاطفي هو الذي تذاق به حلاوة الإيمان، فإذا تعلق الإنسان برسول الله (ص) وأحبه هذه المحبة العاطفية فذلك حامل على اتباعه، وحامل على طاعته فيما أمر وتصديقه فيما أخبر وأن يُعْبَدَ اللهُ بما شرع، وهذه مقتضيات شهادة أن محمدا رسول الله، هي هذه الثلاثة، أن يصدق في كل ما أخبر به، وأن يطاع في كل ما أمر به وأن لا يُعْبَدَ اللهُ إلا بما شرع، فهذه المحبة إذن أمر قلبي عاطفي، وهو إنما يتم بمعرفته، لأن من لا تعرفه ولا تعرف حقه لا يمكن أن تحبه، هل فيكم أحد يمكن أن يحب شخصا مجهولا لم يره ولم يسمع عنه ولا يعرف شيئا من أخلاقه ولا من صفاته؟ هذا مستحيل، ولهذا لاحظوا أن القرآن مليء بصفات الله وبصفات رسوله ورسله عليهم السلام، والسنة مليئة بصفات الله وصفات رسوله (ص)، لماذا؟ هذه الصفات ليست تكليفا لنا نحن، ولكنها معرفة من خلالها تتحقق المحبة، كثير من الناس يظن الآن أن قراءة الشمائل النبوية الأوصاف الخَلْقية للنبي (ص) أو الخُلُقية يقولون: الأوصاف الخُلقية يمكن أن يؤتسى به ويقتدى به فيها، أما الأوصاف الخَلقية فما فائدة قراءتها وتدارسها؟ الجواب أن فائدتها تحصيل محبته، لأنك لا يمكن أن تعرفه إلا إذا عرفت وصفه، وإذا عرفت وصفه أحببته، ولذلك قال البدوي رحمه الله: «وإن عرفت النسب الخطيرا** وسيرة تكن بهم خبيرا** حتى كأنهم بعين النقس** في الصك قد لاحوا لعين الحس»، هذه الأبيات عجيبة جدا في تصوير سبب المحبة الحاصل بالمعرفة، من عرف إنسانا وعرف كماله، تعرف إليه بكل وجه فعرف نسبه وحسبه وصفاته وأسماءه وكل ما يتعلق به اقتضى ذلك منه المحبة، ولهذا تجدون أن مالكا رحمه الله ختم الموطأ بأسماء النبي (ص)، فآخر حديث في الموطإ هو قول النبي (ص) من حديث جبير بن مطعِم: «أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمه وأنا العاقب» «قال: لي خمسة أسماء» فمجرد معرفة هذه الأسماء ودلالاتها يقتضي محبةً وتعلقَ قلبٍ به، فهو محمد أي يحمده الأولون والآخرون، وهو أحمد أي هو أحمد الناس لربه عز وجل، وهو الماحي الذي يمحو الله به الكفر، وهو الحاشر الذي يسوق الأمم فأمته آخر الأمم، فهو الحاشر الذي يحشر الناس على قدمه، وهو العاقب أي الوارث لمن سبق، فهو مصدق لما بين يديه من الحق، والأمم كلها تفتح خزائنها لأمته، فأمته هي التي تتبوء موضع قيادة الأمم، فمن عرف النبي (ص) بأسمائه وأوصافه تحققت لديه هذه المحبة العاطفية القلبية ، ومن درس الفقه الذي جاء به وعمل به يحصل له الاتباع ولكن لا تحصل له المحبة المحضة، فلهذا لا بد أن يتعرف الإنسان على النبي (ص) فيعرف شمائله وأخلاقه وأوصافه، ويعرف كذلك نسبه وسيرته ويعرف أصحابه الذين اختار الله له، وقد زعم أبو محمد بن حزم رحمه الله أن الصحابة جميعا يجب الإيمان بأنهم من أهل الجنة، واستدل لذلك بقول الله تعالى: ﴿ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير جنات عدن يدخلونها﴾ وكذلك قول الله تعالى: ﴿لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى﴾ والحسنى هي الجنة، كُلاًّ يشمل هذا من أنفق من قبل الفتح وقاتل، ومن لم يأت إلا بعد الفتح، فالجميع وعده الله الحسنى، والله لا يخلف الميعاد، فالتعرف على أصحابه (ص) كذلك مقتض لزيادة محبتهم، ومن هنا أَلَّفَ كثير من أهل العلم الكتب المعرِّفة بالنبي (ص) وبآل بيته وبأصحابه وبأنصاره، وكانت هذه الكتب من أهم تراث المسلمين، فانظروا مثلا إلى كتاب خليفة بن خياط شباب المسمى كتاب التاريخ، وكتابه الآخر المسمى الطبقات، وكذلك كتاب الطبقات الكبرى لمحمد بن سعد كاتب الواقدي، وكذلك السيرة لابن إسحاق، وكذلك نسب قريش لمصعب بن عبد الله بن ثابت الزبيري، وكتاب جمهرة أنساب قريش للزبير بن بكار، وما أُلِّف بعد ذلك من الكتب في السير النبوية، ولاحظوا أن أهل الحديث كذالك كان لهم السبق في هذا الباب، فهم الذين جعلوا في كتبهم أبوابا مختصة، فالبخاري ومسلم وغيرهما جعلوا في كتبهم كتابا للمناقب وكتابا للفضائل، وكذلك أحاديث الأنبياء، فذكروا في الفضائل فضائل النبي (ص) وما شرفه الله به، وفي المناقب مناقب أصحابه وآل بيته وما جاء في الثناء عليهم وفي منزلتهم العالية، ومن أحسن الكتب المعرفة بالنبي (ص) كتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي أبي الفضل عياض بن موسى بن عياض اليحصبي الأندلسي السبتي رحمه الله، وهذا الكتاب قال فيه أهل العلم لما قرءوه: لولا الشفا لما عرف المصطفى (ص)، فهو كتاب لا يستغني طالب علم عن القراءة فيه ومراجعته، وقد أدركنا أشياخنا رحمهم الله يقرءونه في هذا الشهر وهو شهر ربيع الأول الذي هو شهر نبوي في الواقع لأن النبي (ص) ولد فيه وبدئ بالوحي فيه لأن الرؤيا الصالحة بدأت في هذا الشهر، وهاجر فيه ومات فيه، فهو شهر نبوي في الواقع، لذلك أدركنا مشايخنا يقرءون كتاب الشفا في هذا الشهر، وقد سمعته ثلاث عشرة مرة من الشيخ محمد عالي رحمه الله في هذا الشهر، وكثير من أهل العلم يفرضون على طلابهم قراءته ليتعرفوا على النبي (ص) وليتهذب سلوكهم وأخلاقهم مع النبي (ص) فيعرفوا حقه ومكانته، ومن الفصول المؤثرة في هذا الكتاب قول القاضي رحمه الله: باب عظيم منزلته (ص) وما يجب من توقيره واحترامه، عن مالك رحمه الله قال: لو أدركتم ما أدركت لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا، فقد أدركت جعفر بن محمد وكان ذا دعابة فإذا ذكر عنده رسول الله (ص) بكى حتى كأنه ما عرفك ولا عرفته، وأدركت محمد بن المنكدر وكان إذا حدثنا عن رسول الله (ص) بكى حتى رحمناه وخرجنا عنه، وكان مالك لا يلبس النعلين ولا الخفين في المدينة توقيرا لرسول الله (ص)، وخرج ذات يوم إلى العقيق فسأله رجل عن حديث فقال: من هذا الذي يسأل عن حديث رسول الله (ص) في الطريق؟ فأمر بجلده عشرين سوطا، فقيل له: يا أبا عبد الله إنه القاضي، قال: القاضي خير من أدب، فجلده عشرين سوطا، فلما ذهب مالك إلى منزله دعاه فرحمه وحدثه عشرين حديثا بدل كل سوط حديثا، فقال القاضي ليته جلدني مائة فحدثني مائة حديث، إنهم كانوا يحبون النبي (ص) حبا عميقا مؤثرا جدا، خرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذات ليلة في المدينة فسمع عجوزا من الأنصار تردد هذه الأبيات: «على محمد صلاة الأبرار** صلى عليه الطيبون الأخيار** قد كنت قَوَّاما بُكاً بالأسحار** يا ليت شعري والمنايا أطوار** هل تَجْمَعَنِّي وحبيبي الدار» فجلس عمر يبكي على بابها حتى أذن المؤذن، كذلك ما عمل عليٌّ رضي الله عنه مِصرَاعَيْ داره إلا بالمناصع احتراما للنبي (ص)، لما بنى داره أراد أن يصنع لها مصراعين، فلم يصنعهما إلا بالمناصع وهي أرض على ميل من الحرم المدني، احتراما للنبي (ص) لئلا يرفع عليه الصوت في المدينة، وقد أكد الله سبحانه وتعالى هذا الاحترام في كتابه، وجعل مقابله محبطا للعمل نسأل الله السلامة والعافية، فقال تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم، يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون، إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم، إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون، ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم والله غفور رحيم﴾ بلغ أصحابه (ص) من توقيره واحترامه ما حدثنا عنه عروة بن مسعود الثقفي حين أتاه وهو بالحديبية، فجلس بين يديه يخاطبه ووجده يتوضأ فكان يمد يده إلى وجه النبي (ص) فيقول: يا محمد إن قومك قد صحبوا العوذ المطافيل ولبسوا جلود النمور يعاهدون الله أن لا تدخلها عليهم عنوة أبدا، ورسول الله (ص) يبتسم، فقال: ما أرى معك إلا أُشَابَةً من الناس جدير أن يفروا عنك ويتركوك، وكان أبو بكر عنده فقال له: امصص بظر اللات ويلك أنفر ونترك رسول الله (ص)، فقال: من هذا؟ فقيل له: أبو بكر، فقال: والله لولا نعمة لك عندي لكافأتك بها ولكن، هذه بتلك، فكان رجل على رأس النبي (ص) إذا مد يده إلى وجهه ضرب ظهر يده بالسيف فقال: اكفف يدك عن وجه النبي (ص)، فقال: يا محمد من هذا القائم على رأسك بالسلاح، فقال: هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة، فلا يبدو من الرجال يومئذ إلا الحَدَقَ تحت الحِلَق، فرجع عروة مشدوها لما رأى، فأتى قريشا فاستقبلوه فقال: يا معشر قريش والله لقد زرت كسرى في ملكه وقيصر في ملكه والنجاشي في ملكه فما رأيت ملكا يعظمه أصحابه ما يعظم محمدا أصحابه، فوالله إنهم عنده لكأنما على رءوسهم الطير، وإذا نطق ابتدروا إلى أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه وما بصق إلا وقعت في كف أحدهم فدلك بها وجهه ورأسه، ووالله إنهم لا يرفعون أبصارهم إليه إجلالا له، وهذا الوصف حدثنا به عمرو بن العاصي كذلك فيما حدث به ولده عبد الله عند موته قال له: يا بني: إنه مر بي ثلاثة أطوار، أما الطور الأول فعندما بعث الله رسوله (ص) بمكة ما كان على وجه الأرض أحد أشد إلي بغضا منه، ولو استطعت أن أضره بشيء لضررته به، ولو مت على هذا الطور لكنت إلى النار، الطور الثاني بعد أن قذف الله في قلبي الإيمان لم يبق أحد على وجه الأرض أحب إلي من رسول الله (ص) ولا أجل في قلبي منه، ووالله ما ملأت عينَيَّ من وجهه حياء منه، ولو سئلت أن أصفه ما استطعت أن أصفه، ولو مت على هذا الطور لكنت في الجنة، ثم جاءت بعد ذلك أمور ليتني أخرج منها كفافا لا علي ولا لي، فما كان عمرٌو يستطيع وصف النبي (ص) إجلالا له وتوقيرا، وكذلك كان عدي بن حاتم الذي كان النبي (ص) يدني مجلسه ويبتسم في وجهه يسأل من يصفه له فيما بعد، وقال: ما شبعت عيناي من وجه النبي (ص) قط، وكذلك جرير بن عبد الله البجلي الذي كان النبي (ص) يحبه ويدنيه كان يقول: إن الساعات التي رأيت فيها النبي (ص) لهي أحب إلي من عمري ولوددت أن تزداد، وأول ما رأيت منه خاتم النبوة، ولو سئلت أن أصف وجهه لما استطعت أن أصفه، وكذلك الحسن بن علي سبط رسول الله (ص) وأدنى الناس إليه كان يقول لخاله هند بن هند صف لي رسول الله (ص)، وكذلك عدد من الصحابة كانوا يسألون إخوانهم أن يصفوا لهم النبي (ص)، لأنهم من شدة احترامه لم يكونوا ينظرون إليه ومن شدة توقيره كذلك، ولهذا فإن خبيب بن عدي رضي الله عنه عندما أخذه بنو لحيان فباعوه بمكة في بعث الرجيع وضعه قريش في السجن انتظارا لنهاية الشهر الحرام، حتى انتهى الشهر الحرام فخرجوا به خارج الحرم ليقتلوه، فلما أخرجوه وهيأوا له الخشبة أتاه أبو سفيان وهو يرسف في حديده فقال له: يا خبيب، إنك من بني جَحْجَبَى وهم البطن الذي هو منهم من الأنصار، ليس بيننا وبينك رحم، أرأيت أتود لو أن محمدا ابننا في أيدينا نفعل به ما ترى وأنت في أهلك معافى، فقال: لا والله ما يسرني أن محمدا في مكانه الذي هو فيه يشاك بشوكة وأني أنجو مما في أيديكم، فلما وضعوه على الخشبة رفع يديه إلى الله سبحانه وتعالى ودعا دعاء بليغا وسأل الله أن يبلغ رسوله (ص) سلامه، فبلغ الله نبيه (ص) سلامه عنه في هذه الحالة، وكذلك ما حصل لفاطمة بنت يزيد بن السكن عندما قتل رجالها يوم أحد فقد قتل زوجها وولداها ووالدها وأخواها وعمها وعم أبيها قتلوا جميعا يوم أحد بين يدي النبي (ص)، فلما جاء النبي (ص) إلى المدينة جاء الناس للسلام عليه فكان فيمن جاء فاطمة فأرادت أن تنظر في وجه النبي (ص) والناس يحولون بينها وبين ذلك فرآها النبي (ص) فقال: دعوها، فلما دنت إليه نظرت إليه فقالت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله كل مصيبة بعد رؤيتك جلل، كل المصائب جلل لا تساوي شيئا بعد رؤيته (ص)، وكذلك حال عمرو الأصيرم وهو عمرو بن ثابت بن وقش بن السكن عندما اشتدت به الجراحات يوم أحد أتاه محمود بن الربيع فسأله فقال: ما أتى بك يا عمرو هاهنا أَحَدَباً على قومك أم رغبة في الإسلام؟ فقال: بل رغبة في الإسلام أقرئ رسول الله (ص) سلامي، فبلغه سلامه، وكذلك حال كثير من الصحابة في مثل هذا الوقت عند الموت لا يشغلهم ما يرون عن محبة النبي (ص)، وعند المصائب الجسام كذلك، بل إنهم بلغوا من محبته (ص) بحيث كان كثير منهم يوفق لما يحب رسول الله (ص) دون أن يأمره بذلك، صح في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كنا في ليلة ذات صِرٍّ وبرد فقال النبي (ص) لوددت أن رجلا صالحا من أمتي يحرسني الليلة من اليهود، فبينما هو يقول ذلك إذ سمع صوت السلاح على الباب فقال: من أنت؟ فقال: سعد بن مالك سعد بن أبي وقاص، قال: وما أتى بك؟ قال: أتيت لأحرسك يا رسول الله، قد اختارهم الله لرسوله (ص) ووفقهم لخدمته فكانوا هكذا يفعلون، كذلك حال أتباعهم من بعدهم، فقد بلغوا هذا المستوى من محبة النبي (ص) وإجلاله وتعظيمه وتعظيم أصحابه وتعظيم آل بيته من بعده، وقد حدثنا مالك عن جعفر بن محمد وعن محمد بن المنكدر وهما من التابعين من أئمة أهل المدينة، وكذلك من بعدهم من خيار هذه الأمة فقد كان حرصهم على سماع حديث النبي (ص) يقتضي منهم الأسفار الطويلة إلى البلاد النائية، وكان كثير منهم يقطع المسافات الشاسعة على رجليه كأحمد بن حنبل الذي لم يترك حاضرة نقل إليها حديث النبي (ص) إلا دخلها، ومكث في الرحلة سبعا وثلاثين سنة وهو يجمع الحديث، ورفيقه يحيى بن مَعِينٍ الذي صحبه في تلك الرحلة كلها وكان يتمنى على الله أن يموت في المدينة فقدر الله أن يموت يحيى في الروضة، وأن يُغْسَل على الألواح التي غسل عليها النبي (ص) وأن يدفن بالبقيع، فعندما مات يحيى قال خازن الحجرة النبوية: سأخرج لكم الألواح التي غسل عليها النبي (ص) لتغسلوا عليها يحيى لتعلقه بحديث النبي (ص)، فأخرج لهم الألواح فغسل عليها يحيى بن معين رحمه الله، وكذلك ما كان فيمن بعدهم من شدة التعلق بأي شيء نسب إلى النبي (ص) أو كان من أثاثه، أو متاع بيته، فقد ورثوا ذلك عن أصحاب النبي (ص)، فهذه أم سلمة كما في صحيح البخاري كان لها جلجل من فضة فيه شعرات من شعر النبي (ص)، وفيه ثقوب، فإذا مرض مريض أرسل إليها بقدح من ماء فخضت له فيه الجلجل فيشربه فيبرأ، والجلجل وعاء صغير من فضة مثل الذي يتخذ في الجرس، وكذلك كان لخالد بن الوليد شعرات من شعر النبي (ص) فكان يجعلها في المِغفَر على رأسه حين يقاتل العدو، وكان لمعاوية بن أبي سفيان أظافر النبي (ص)، احتفظ بها فلما أدركه الموت أوصى أن تجعل داخل جفنيه في عينيه ففعل ذلك به، وكذلك كان لأبي هريرة كنيف أعطاه إياه رسول الله (ص) فيه أمداد من شعير، فكان ينفق منه بقية حياة النبي (ص) وخلافة أبي بكر وخلافة عمر وخلافة عثمان، فلما قتل عثمان يوم الدار نهب بيت أبي هريرة فأخذ منه ذلك الكنيف، فقال رضي الله عنه: «للناس همٌّ ولي ذا اليومَ همان** فقد الكنيف وفقد الشيخ عثمان» فبدأ به قبل عثمان رضي الله عنه، كان حزنه عليه أشد من حزنه على عثمان لشدة محبته للنبي (ص)، وكذلك فالخلفاء من بني العباس حافظوا على كل ما وصل إليهم مما كان مِلكا للنبي (ص) أو ما كان لأصحابه المعروفين فاحتفظوا بسيوف النبي (ص) وبعمامة تنسب إليه وما زالت السيوف والعمامة إلى الآن في معرض إسطنبول، كانت لدى العباسيين فلما انتهت دولتهم أخذها بنو عثمان فبقيت لدى سلاطينهم، وإلى الآن ما زالت السيوف كما هي وما زال جزء من العمامة محفوظا عندهم إلى وقتنا هذا، وكذلك بعض الكتب التي كتبها النبي (ص) ككتابه إلى المنذر بن ساوى وغيره من الكتب، ومن شدة تعلقهم بالنبي (ص) عنايتهم بآثاره حتى إن المهدي بن المنصور وضع الأساطين التي أتي بها من خراسان في الحرم المكي علامة على طريق النبي (ص) إلى الصفا، وكتب عليها وما زالت الأساطين الأربعة إلى الآن قائمة في مكانها، كتب عليها على واحدة منها ما زال الخط مقروءا مكتوب عليها: أمر بوضع هاتين الأسطوانتين في هذا المكان أمير المؤمنين محمد المهدي عَلَماً على طريق رسول الله (ص) إلى الصفا ليأتم به حاج البيت وعماره أطال الله عمر المهدي أمير المؤمنين في تعظيم وتكريم وموسى وهارون وكان ذلك سنة سبع وستين ومائة مما عمل أهل الكوفة، وما زال هذا مقروءا إلى وقتنا هذا، على الأسطوانة التي تلي البيت من الأساطين الأربع، والأساطين الأخرى بقيت الكتابة عليها لكنها لم تعد مقروءة تماما كما هي لعوادي الدهر، كذلك أخذوا هذا عن أصحاب النبي (ص) الذين كان من شدة محبتهم له أن يحاولوا التأسي بآثاره حتى ما ليس تشريعيا من أفعاله كما كان ابن عمر إذا ذهب في طريق الحج أو العمرة يقصد أن يسير على أثر النبي (ص) فيعدل عن السير بين شجرتين ويمر بين شجرتين أخريين أو يدور بشجرة، فيقال له لم تفعل هذا، فقال: لقد رأيت النبي (ص) جمحت به ناقته ففعله فيفعله هو، وينيخ ناقته في مكان فيبول فيه فيقول: لقد رأيت النبي (ص) فعله، وبلغ الشأن من العناية بهذا حتى في أيام عروة بن الزبير وهو من التابعين يحدث عن غزوة من الغزوات التي غزاها النبي (ص) في بداية الإسلام أنه نزل عند شجرة هنالك فطبخ له طبيخ وقد رأيت أثر موقد النار، رأيت أثر موقد النار هذه عناية كاملة بآثار النبي (ص) وتقصيها، حتى ذهب عروة ليرى موقد النار التي أوقدت للنبي (ص) فطبخ له عليها طبيخ، لشدة تعلق القلب به ومحبته، ومن ذلك العناية بآل بيته، فقد أخرج مسلم في الصحيح من حديث محمد بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم وأرضاهم أنه قال: دخلت في قوم على جابر بن عبد الله وكان كبيرا قد كف بصره، فقال: من القوم؟ فعرف بهم حتى بلغ إلي فقال: يا ابن أخي ادن مني، فدنوت منه فمد يده فحل زري الأعلى وزري الأسفل ووضع يده بين ثديي ثم قال: يا ابن أخي سلني عما بدا لك، فقلت أسألك عن حجة رسول الله (ص)، فحدثه بحجة الوداع بطولها، وهذا الحديث من أطول حديث في صحيح مسلم، وهذا الحديث ذكر فيه أن جابرا حل زره الأعلى وزره الأسفل ووضع يده بين ثدييه وأدناه وقربه لمكانه من النبي (ص)، فهو محمد بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، وكذلك كانت عنايتهم بآل بيته وبكل من بينه وبينه علاقة، فقد كان النبي (ص) في حياته يزور بركةَ أمَّ أيمن مولاته، فلما ولي أبو بكر الخلافة قال لعمر: تعال بنا نَزُرْ أم أيمن كما كان النبي (ص) يزورها، فذهبا إليها فلما جلسا بكت أم أيمن بكاء شديدا، فقالا لها: وما يبكيك أما علمت أنما عند الله خير لرسول الله (ص) من هذه الدنيا، قالت: أما إني لا أبكي لأني لا أعلم أنما عند الله خير لرسوله (ص) من هذه الدنيا ولكني أبكي لانقطاع الوحي، فأبكتهما فبكيا بكاء شديدا حتى خرجا.

إن هذه المحبة ينبغي أن تستمر في المؤمنين، وأن تعود الآن إلى ما كانت عليه في أيام الصحابة والتابعين، وأن تصفى من الشوائب والأكدار المخالفة للهدي والسنة، فإن كثيرا من الناس يظنون أن محبة النبي (ص) هي بالغلو فيه ووصفه بما ليس صحيحا من الأوصاف المختلقة التي نهى عنها النبي (ص) وقال: لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، فبعض الناس يزعم أن من محبته إطراءه وأن يوصف بأنه سر وجود العالم كله وأنه لولاه ما خلقت شمس ولا قمر إلى غير ذلك مما لم يخبر به النبي (ص) ولا علَّمه أحدا من أصحابه ولا وصفوه به، وكذلك اتخاذ قبره عيدا فقد حرم ذلك رسول الله (ص) ولعن من فعله، وأوصى أن لا يتخذ قبره عيدا وسأل الله أن لا يتخذ قبره عيدا، ومثل ذلك اتخاذ مولده عيدا تأسيا بالنصارى الذين جعلوا مولد عيسى عيدا، وهذا أيضا مخالف لسنته وليس من هديه ولا من محبته، ومثل ذلك اختلاق الأحاديث الموضوعة في التوسل به، أو أشد من ذلك بالاستغاثه به (ص)، فهو ما جاء إلا لتغيير الشرك ومسحه وطمسه من الأرض، ونحن نشهد أنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، وما من خير إلا أرشد إليه وما من شر إلا حذر منه، فكفانا ما جاء به النبي (ص) ولا نحتاج إلى زيادة، ورحم الله الشيخ باب بن الشيخ سيديا إذ يقول: «كن للإله ناصرا** وأنكر المناكرا** وكن مع الحق الذي** يرضاه منك دائرا** ولا تعد نافعا** سَواءه أو ضائرا** واسلك سبيل المصطفى** ومت عليه سائرا** فما كفى أولنا** أليس يكفي الآخرا** وكن لقوم أحدثوا** في أمره مهاجرا** قد زعموا مزاعما** وسودوا دفاترا** واحتنكوا أهل الفلا** واحتنكوا الحواضرا** وأورثت أكابر** بدعتها أصاغرا** وإن دعا مجادل ** في أمرهم إلى مرا** فلا تمار فيهمُ** إلا مراء ظاهرا» ويقول رحمه الله أيضا: «آمن أخي واستقم** ونهج أحمد التزم** واجتنب الطرق لا** تغررك أضغاث الحلم** لا خير في دين لدى** خير القرون قد عدم** أحدثه من لم يجئ** قطع بأنه عصم** من بعد ما قد أنزلت** اليوم أكملت لكم** وبعد ما صح لدى** جمع على غدير خم** ادع إلى سبيله** وخص في الناس وعم** وقل إذا ما أعرضوا** عليكم أنفسكم»، إن محبة النبي (ص) ليست بالتمني ولا بالأقاويل الباطلة، وليست كذلك بالادعاء والاختلاق لما لم يأذن به الله، بل إن النبي (ص) قال: «إن كَذِبا علي ليس ككذب على أحد، فمن كذب علي فليلج النار» وكذلك أحدثكم بما حدثني به جدي محمد علي بن عبد الودود، قال حدثنا يحظيه بن عبد الودود عن محمد بن محمد سالم، عن حامد بن عمر عن الفقيه الخطاط عن القاضي ابن اعل مم السباعي عن شيخ الشيوخ الحسني عن علي الأجهوري عن البرهان العلقمي عن الجلال السيوطي عن زكريا الأنصاري عن الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني عن إبراهيم البلخي، عن أحمد بن أبي طالب الحجار عن عبد الأول بن عيسى السجزي، عن الحسين بن المبارك عن عبد الرحمن بن محمد الداودي، عن عبد الله بن أحمد السرخسي، عن محمد بن يوسف بن مطر الفربري عن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري في صحيحه قال حدثنا المكي بن إبراهيم قال أخبرنا يزيد بن أبي عبيد عن سلمة بن الأكوع أن النبي (ص) قال: «من يقل علي ما لم أقل: فليتبوأ مقعده من النار» وهذا الحديث أول ثلاثيات البخاري في الصحيح، فبين البخاري فيه وبين النبي (ص) ثلاثة أشخاص، هم المكي بن إبراهيم ويزيد بن أبي عبيد مولى سلمة بن الأكوع، وسلمة بن الأكوع وهو الصحابي، فالذين يختلقون على النبي (ص) أحاديث لم يقلها هؤلاء لا يحبونه ولا يحققون هذه المحبة المنشودة، والذين يدعونه من دون الله قد خالفوا ما جاء به بالكلية، فهو ما جاء إلى لتحطيم الشرك وتهديم كل ما يدعى من دون الله وقد بذل في ذلك جهده وحققه حتى عبد الله وحده على هذه الأرض، فكيف تجعل محبته بخلاف ما جاء به وخلاف دعوته بالكلية؟ كذلك فإن محبة النبي (ص) تقتضي تعلم سنته، كيف تحقق يا أخي محبة النبي (ص) وأنت لم تقرأ صحيح البخاري ولا صحيح مسلم ولا موطأ مالك ولم تطلع على شيء من أحاديث النبي (ص)، واستغنيت عن ذلك بما كتبه الناس، هل يمكن أن تتحقق لك محبته وأنت تهجر كلامه ولا تقرأ شيئا من سنته، إن الإمام أبا حامد الغزالي رحمه الله قد مر به كثير من الأطوار والمراحل وعندما دنا أجله تاب من كل تلك الأطوار وخرج منها ورجع إلى سنة النبي (ص) فمات صحيح البخاري على صدره يقلبه، إن كثيرا من الناس يظنون أو يزعمون أنهم يحبون رسول الله (ص) وهم يهجرون سنته، ولا يريدون تعلمها أصلا، ويكتفون من ذلك بكثير من الصلوات التي فيها من المبالغات والمجازفات الشيء الكثير، ومن أعجب ما سمعت في ذالك أن رجلا من كبار الموظفين في دولتنا هذه مع احترامنا لكبار الموظفين لقي رجلا في مطار شارل دكول في باريس، فسأل عن تخصصه؟ قال: أين تدرس؟ قال: أدرس في الجامعة الفلانية، قال: في أي تخصص تدرس؟ قال: أدرس الحديث، فقال: عجيب فيه تخصص اسمه تخصص الحديث، يقول له : أنا أظن أن الحديث يكفي منه دلائل الخيرات الذي عند أمك، فيكفي هذا من الحديث، إن هذا المفهوم شاع بين الناس حتى أصبح كثير من الناس يظنون أن الحديث هو مجرد تلك الصلوات التي فيها المجازفات الكثيرة التي لم يأمر بها رسول الله (ص) ولا أحد من أصحابه ولا أحد من التابعين ولا عرفت في الصدر الأول من هذه الأمة، ولا عرفها الأئمة المجتهدون الذين يقتدى بهم في دين الله، وإنما هي من اختلاقات الناس بعد ذلك، فجعلت هذه بديلا عن أحاديث النبي (ص) ورشحت مكان ذلك، أصل الآن بعد الكلام عن محبة النبي (ص) إلى شمائله الطاهرة، إن الشمائل معناها الخصال والأوصاف، والمقصود بها ما أثر عن النبي (ص) من الأوصاف الخَلْقِية والخُلُقية، وهي داخلة في مسمى الحديث عند المحدثين، وغير داخلة في مسمى الحديث عند الفقهاء والأصوليين، فالحديث عند الأصوليين هو ما أثر عن النبي (ص) من قول أو فعل أو تقرير مما يصلح دليلا لحكم شرعي، وهذا هو الحديث عند الفقهاء أيضا، أما عند المحدثين فالحديث هو ما أثر عن النبي (ص) من قول أو فعل أو تقرير أو وصف خَلْقي أو خُلُقِيٍّ سواء صلح دليلا لحكم شرعي أو لم يصلح، كل ما روي عن النبي (ص) فهو داخل في مسمى الحديث، وينبغي أن يقيد هذا التعريف بقيد لا يذكره المحدثون وهو أن يكون الواصف قد رأى النبي (ص)، ليخرج بذلك المداحون الذين يثنون عليه بكثير من الأوصاف ولم يروه، فليس وصفهم له حديثا وإن كان وصفا للنبي (ص) لأنهم لم يروه، فلذلك ينبغي أن يكون هذا ما أثره عنه من رآه، أن يقيد التعريف بأن يكون صادرا ممن رآه (ص)، والذين رأوه وصفوه كثيرا من الأوصاف، أما الأوصاف الخُلُقية فهي في كتاب الله سبحانه وتعالى وفيه منها ما يكفي، فقد قال الله تعالى: ﴿ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون، وإن لك لأجرا غير ممنون وإنك لعلى خلق عظيم﴾ ويقول الله تعالى: ﴿والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى وللآخرة خير لك من الأولى ولسوف يعطيك ربك فترضى﴾ ويقول تعالى: ﴿ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك ورفعنا لك ذكرك﴾ ويقول تعالى: ﴿إنا فتحنا لك فتحا مبينا، ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما وينصرك الله نصرا عزيزا﴾ ويقول تعالى: ﴿محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا، سيماهم في وجوههم من أثر السجود، ذلك مثلهم في التوراة، ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما﴾ ويقول تعالى: ﴿ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآيتنا يؤمنون الذي يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون﴾ وكذلك جاء في حديث ابن عباس في سنن الترمذي وغيره بإسناد صحيح أن وصف النبي (ص) في التوراة أنه غير فاحش ولا متفحش ولا صخاب بالأسواق، وهذه الصفات سلبية تثبت ضدها وهو اتصافه (ص) بالاستقامة والعدل واللين والرحمة، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه اتصافه بهذه الأوصاف في قوله: ﴿لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم﴾ فهذه أوصافه (ص) الخُلُقية في كتاب الله، ويكفي منها قول الله تعالى: ﴿وإنك لعلى خلق عظيم﴾ فهو محيط بهذه الأوصاف جامع لها، ولذلك يقول أحد علمائنا أظنه الشيخ محمدُّ بن حبيب الرحمن رحمهم الله يقول: «أبعد ثناء خالقنا تعالى** على طه ثناء للورى لا** فما أبقت على خلق عظيم** مؤكدة لمخلوق مقالا»، هذا ثناء الله الخالق، فلا يبقي ذلك لمخلوق مقالا، وكذلك من هذه الأوصاف وصف العباس له رضي الله عنه، فقد قال له يا رسول الله، أتأذن لي أن أمتدحك، فقال: قُل، فقال: «من قبلها طبت في الظلال وفي** مستودع حيث يخصف الورق** ثم هبطت البلاد لا** بشر أنت ولا مضغة ولا علق** بل نطفة تركب السفين وقد** ألجم نسرا وأهله الغرق** وردت نار الخليل مكتتما** في صلبه أنت كيف يحترق** ينقل من صالب إلى رحم** إذا مضى عالم بدا طبق** حتى احتوى بيتُك المهيمن** من خندف علياء تحتها النطق** فنحن في ذلك الضياء وفي** النور وسبل الرشاد نخترق» قد بين العباس مسيرة النبي (ص) وتقلبه في الساجدين من لدن آدم حين أهبط من الجنة إلى زمان الطوفان وركوب نوح للسفينة إلى إلقاء إبراهيم في النار ونجاته منها، إلى ما بعد ذلك من التقلب إلى أن وصل إلى خندف وهي زوجة إلياس بن نزار بن معد بن عدنان وهي أم مدركة جد النبي (ص)، وأثنى عليه بهذا الثناء الذي هو أهل له، وقد أثنى عليه من قبل بهذه الأوصاف الخَلْقية والخُلُقية كذلك أبو طالب، في لاميته في الشعب التي قال فيها عبيدة بن الحارث بن المطلب يوم بدر، لو أن أبا طالب حي لعلم أنا أولى منه بقوله: «ونسلمه حتى نصرع حوله** ونذهل عن أبنائنا والحلائل» فهو هنا يشير إلى قول أبي طالب: «وأبيض يستسقى الغمام بوجهه** ثمال اليتامى عصمة للأرامل** يلوذ به الهلاَّكُ من آل هاشم** فهم عنده في نعمة وفواضل** كذبتم وبيت الله نُبزَى محمدا** ولما نقاتل دونه ونناضل** ونسلمه حتى نصرع حوله** ونذهل عن أبنائنا والحلائل»، إن الذين وصفوه من أصحابه (ص) اتجهوا اتجاهات شتى في هذه الأوصاف، أما من الناحية الخلقية فأعظم وصف له ما وصفته به عائشة رضي الله عنها حين سئلت عن خلق رسول الله (ص) فقالت: كان خلقه القرآن، هذا أبلغ وصف وأجمعه وأعظمه، خلقه القرآن كل ما أمر الله به فقد حققه في خلقه، وكل ما نهى عنه فقد اجتنبه واجتمع فيه ما رضي الله لعباده، ولهذا جعله الله إسوة صالحة لجميع الناس، هذا أجمع وصف خُلُقي للنبي (ص)، إذا أردت أن تجد وصفه فيما يتعلق بالخلق فاقرأ كتاب الله، كلُّ أمر أمر الله به في كتابه فقد حققه، وكل نهي قد نهى عنه فقد ابتعد عنه، وكل خلق أرشد إليه فقد حققه، وقد هيأه الله لذلك واختاره، فقد شق صدره مرتين وأخرج منه المضغة السوداء وغسل مكانه بماء زمزم، وهيأه ليكون إسوة لكل البشر، كذلك من الناحية الخَلْقية فقد وصفه عدد منهم، ومن الأوصاف التي اتفقوا عليها في وصفه (ص) أنه كان رَبْعَة إلى الطول، أي ليس بالطويل البائن ولا بالقصير الذي تزدريه الأعين، وكان ربعة إلى الطول، وكذلك في اللون ليس بالأبيض الأمهق، ولا بالأحمر الذي تزدريه العيون، ولكنه كان أبيض مشربا، أي مشربا بحمرة، بياضه مشرب بحمرة، ووصفوه كذلك بأن وجهه كفلقة القمر، يشبه فلقة القمر في الاستدارة، ووصفوه كذلك بأنه كان أقنى الأنف وكان أزج الحاجبين وكان أهدب الأشفار، وكان ما بين حاجبيه متصلا، وكان واسع الجبهة مستديرها، وكان كذلك (ص) معتدل نِبتة الفم، فكان بين أسنانه الخلل، أي أسنانه ليست اثنتان منها بمتماستين، وكان بَرَّاق الثنايا إذا ابتسم كأنما أضاء برق من فمه، وكذلك كان ضخم الكراديس أي المفاصل عظيم المشاش أي مفاصله قوية متماسكة، وكان بادنا أي يستوي صدره وبطنه فليس بطنه أرفع من صدره ولا صدره أرفع من بطنه، وهذا معنى كونه بادنا، وكذلك كان (ص) قوي الجسم، إذا مشى كأنما ينحط من صبب، يسرع الرجال فيُجْهِدون أنفسهم ليلحقوه وهو لا يتكلف أي لا يتكلف في المشي، إذا مشى أسرع، وإذا الْتَفَتَ التفت ببدنه كله وذلك للوقار والسكينة، يهابه رائيه إذا رآه فجأة، وكثيرا ما يصاب برعدة عندما يراه فجأة لأول مرة لهيبته (ص)، ولذلك قال للرجل الذي أتاه فلما رأى وجهه أخذه البُرَحَاء أي العرق والرِّعدة فقال له: هون عليك فإنني لست بملك إنما أنا عبد الله ورسوله، وكذلك وصفوه فيما يتعلق بالأصابع أنه كانت أصابع يديه معتدلة، وكان أسيل الخدين، وكان شثن الرجلين وكان ممسوح القدمين، أي ليس قدماه بالعريضين وكان (ص) معتدل الساقين أي ليس فيهما عوج ولا انتفاخ في مكان دون غيره، وكذلك كان دقيق المَسْرُبَة وهي الشعرات التي تنبت من الصدر إلى السرة، فهي خط مستمر، وكان كث اللحية، وكان (ص) يأخذ من طرفي شاربه، وتبدو طرته كأحسن ما يبدو من الطرر، طرته أي طرف شاربه تبدو كأحسن ما يبدو من الطرر، وكان أدعج العينين أي شديد سوادهما شديد بياضهما، فبياضهما شديد البياض وسوادهما شديد السواد، وكان (ص) لا يتغير لونه في الحر ولا في البرد، في الأسفار لا يتغير لونه فلونه كما هو في الحر والبر وفي كل الأحوال، وكذلك كان طيب الريح، فكان الناس يشمون رائحة الطيب من عرقه (ص) وما تطيب، بل كانت أم سليم تأخذ عرقه فتجعله في الطيب فكان أهل المدينة يقولون: ما رأينا طيبا أطيب من طيبها، ويسألونها عن طيبها فتقول: لقد جعلت فيه أطيب الطيب تقصد عرق النبي (ص)، وكذلك كان (ص) في ظهره خاتم النبوءة وهو على كتفه الأيسر وهو مثل بيضة الحمامة، في أعلاه شعرات نبتت عليه فهو شبه الثآليل التي هي بلون بين الغبرة والسواد، وقد نبتت عليه شعرات، وهذا هو خاتم النبوءة الذي أخبر به الأنبياء من قبل وبينوا أنه علامته، وكان الذين يدرسون الكتب السابقة إذا سلموا عليه استداروا قبل ظهره ليروا خاتم النبوة وكان هو ربما تشاغل بالأمر حتى يسقط رداؤه عن ظهره فيرى الناس خاتم النبوة، كذلك من ناحية الخُلُق، فقد وصف بشدة الحياء فكان أشد حياء من العذراء في خدرها، وكذلك كان أشد الناس تواضعا، فتأتيه الأمة السوداء فتأخذ بيده حتى يقضي لها حاجتها، ويأتيه الأعرابي الجِلف البادي فيجذبه بطرف ثوبه حتى يؤثر في صفحة عنقه، ويقول: يا رسول الله مر لي بشيء من مال الله الذي تحت يدك، فيبتسم ويقضي له حاجته، وتقدم ذات يوم للصلاة فأتاه رجل فوقف أمام الصف يصيح فقال: يا رسول الله علمني مما علمك الله، فتلطف به وذهب إليه وعلمه طويلا والناس في صفوفهم ثم جاء مكانه فصلى بالناس ولم يعد الإقامة، وكذلك كان يكون في مهنة أهله فيخصف نعله ويخيط ثوبه ويقم بيته بيده (ص)، ومن شدة تواضعه أنه كان يضطجع على حصير فيبقى أثره في ضلوعه، وكان بعد ذلك فراشه من أَدَمٍ أي من جلد أحمر حشوه من ليف، فكان إذا جاء الضيف أجلسه عليه، وكذلك كان (ص) من خلقه الحِلم، وكان لا يغضب إلا لغضب الله إذا انتهكت حرمات الله، وإذا غضب لا يقوم لغضبه شيء، وكذلك كان من وصفه (ص) الصبر على أذى الناس فكان أشد الناس صبرا، وكان من خلقه (ص) كذلك الكرم، ففي حديث جابر كان رسول الله (ص) أجود الناس فما سئل شيئا قط فقال لا، إن كان عنده أعطى وإلا رد بميسور من القول، وفي حديث ابن عباس، قال: كان رسول الله (ص) أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن فلرسول الله (ص) أجود بالخير من الريح المرسلة، وكذلك كان (ص) من شدة حرصه على الناس يعود المرضى حتى من غير المسلمين، فقد ذهب يعود طفلا من اليهود مريضا فوجده يجود بنفسه، فقال له: قل لا إله إلا الله محمد رسول الله، فرفع الطفل رأسه إلى أبيه يستأمره في ذلك، فقال: قل ما أمرك به أبو القاسم فقاله ومات، فقال النبي (ص) لأصحابه: خذوا صاحبكم، فأخذوه وجهزوه وصلى عليه النبي (ص) ودفنه، وكذلك كان من شدة تواضعه أنه كان يجيب كل دعوة يدعاها، فدعاه يهودي إلى خبزة ناسة وإهالة سنخة فلبى دعوته، إلى خبزة ناسة أي ناشفة قد يبست، وإهالة أي زبدة سنخة أي قد تغير لونها فاصفرَّت فأجابه إلى ذلك، وكان من تواضعه (ص) أنه قال: لو دعيت إلى كراع أو ذراع لأجبت، فيجيب إلى أي شيء يدعى إليه، وكذلك كان (ص) كثير التبسم، ولكنه إذا ابتسم تبدو أنيابه فقط ولا يستغرق ضاحكا، ولا يسمع صوته في الضحك، وكذلك من وصفه (ص) صِلَتُه وعَفافه، فقد كان أشد الناس تعففا، وأكثرهم صِلة لذوي رحمه، حتى إن أم سلمة ذكَّرته بذلك عندما لم يقبل من أبي سفيان بن الحارث وعبد الله بن أبي أمية بيعتهما، فقالت: لا يكن ابن عمك وابن عمتك أشقى الناس بك، فلم يقبل شفاعتها فذهبا إلى علي يريدان شفاعته، فقال: إني لا أشفع لكما، ولكني أدلكما على ما هو خير من ذلك، فقالا وما هو؟ فقال: ما كان ينبغي لأحد أن يكون أحسن جوابا من رسول الله (ص)، فقولا له: ما قال إخوة يوسف ليوسف: ﴿تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين﴾ فقالا له ذلك، فقال: ما قال يوسف عليه السلام: ﴿لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين﴾ وكذلك من خلقه (ص) رحمته بالصغار والضعفة والمساكين فقد كان الصبية يأتونه فيلعبون بخاتم النبوة، وكان يصلي فأتى الحسين وأمامة فركبا على ظهره وهو ساجد فأطال السجود لهما حتى لا يزعجهما أو لا يحرجهما فلما سلم قال: نعم الجمل جملكما، وأتاه الحسن وهو يصلي فوقف إلى جنبه فحمله في قيامه، فكان إذ ركع أو سجد وضعه وإذا قام حمله، وحمل أمامة بنت أبي العاصي كذلك في الصلاة، وكان من رحمته بالصبية الصغار أنه يداعبهم ويمازحهم، فقد دخل ذات يوم بيت أبي طلحة فرأى أبا عمير وهو يلعب بطير له، فقال: ما فعل النغير يا أبا عمير، وكناه بهذه الكنية وهو طفل صغير يخاطبه بأحب أسمائه إليه، وكان يفعل ذلك حتى مع أعدائه، فقد صح أنه حين أتاه عتبة بن ربيعة يجادله عن قريش قال له: اسمع أبا الوليد فقرأ عليه سورة فصلت حتى بلغ قول الله تعالى: ﴿فإن أعرضوا فقل أنذتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود﴾ فقال: حسبك حسبك فأسكته، وكذلك كان يحسن ضيافتهم فكان يحسن ضيافة اليهود وأحسن ضيافة عامر بن الفيطل وأربد حين نزلا عليه على شركهما وعداوتهما لله ورسوله، وكذلك كان من خلقه مع الناس اللين والرحمة، فقد عرف بذلك بين الناس حتى إن اليهود بني قريظة حين قال لهم: يا إخوان القردة والخنازير، قالوا يا أبا القاسم ما عهدناك فحاشا، وكان من حيائه (ص) من ربه عز وجل أن بلغ أنه يوم الفتح حين دخل مكة بالسلاح ألصق ذقنه بصدره حياء من الله عز وجل، وكان كثير البكاء من خشية الله عز وجل، فكان يبكي في قيام الليل، وقام ليلة كلها يقرأ آية واحدة وهي قول الله تعالى: ﴿إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم﴾ وكان كذلك كثير الدعاء والإلحاح على الله سبحانه وتعالى، ومواقفه في ذلك مشهودة كيوم بدر وغيره، يناشد الله ما وعده، هذه بعض شمائل النبي (ص) ولا يمكن أن نأتي على كلها، وقد ألفت الكتب الكثيرة فيها ولم تحتو على القدر الكافي منها، والوقت عدو لنا حين يخرجنا من شمائل النبي (ص)، مثلما قال العلامة عبد الله بن سيد محمود رحمة الله عليه حين خرج من المدينة في حجته فرآها تلقاء ظهره التفت إليها يبكي وهو يقول: «بان الرسول وبانت عنك طيبته** إن الأحبة والأوطان أعداء» إن الأحبة والأوطان أعداء إذا كانوا سببا في إخراج الإنسان من مدينة النبي (ص)، فكذلك الوقت عدو لنا حين يخرجنا من شمائل النبي (ص) ولعلي هنا أختم بأبيات من قصيدة العلامة أحمد بن محمد بن محمد سالم المجلسي رحمهم الله أجمعين حيث يقول: «أتذري عينه فضض الجمان** غراما من تذكره المغاني** مغان بالعقيق إلى المنقى** إلى أحد تذكرها شجاني** ومن تذكار منزلة بسلع** إلى الجما تعاني ما تعاني** فهل عزم يصول على التواني** وهل بعد التباعد من تداني** وهل أغدو بكور الطير رحلي** على وجناء دوسرة هجان** تَبُذُ العيس لاحقة كلاها** وتطوي البيد مسنفَة اللماني** ترى بعد الدؤوب كأخدري** بيمؤود أرن على أتان** حداها شوق دار الفتح مأوى** إمام الرسل مأمن كل جان** بعيشك صف شمائله فإني** أحن إلى شمائله الحسان** فما شمس الظهيرة يوم دجن** تحاكي وجنتيه ولا تداني** ولا بدر التمام إذا تبدى** يحاكي الوجه ليلة الإضحيان».

الثلاثاء, 14 ديسمبر 2010 10:34
 

آخر تحديث للموقع:  الثلاثاء, 12 نوفمبر 2024 13:54 

اشترك في القناة

فقه الحج

موقع مركز تكوين العلماء

برامج تلفزيونية

إحصائيات

المتصفحون الآن: 265 

تابعونا علــــى:

تابِع @ShaikhDadow