العدالة الاجتماعية. الجزء الثاني

 

ومن أجل هذا فإن السرف مقيت شرعا، وبالأخص إذا كان الإنسان يسرف فيما يضره ويضر غيره ولا ينتفع هو به، فالإفساد المطلق كإهلاك الحرث والنسل وقطع الثمار وإهدار الطاقات كالمياه وغيرها هذا من أبلغ أنواع المعاصي لأنه مضرة على الأجيال اللاحقة ومفسدة تلحق البشرية كلها، فالذي يريد الخروج من طريق فيقطع ما فيه من الأشجار يريد بذلك تقصير الطريق مع أنه كان بالإمكان أن يميل عنها ذات اليمين أو ذات الشمال يظن أنه لا يملك هذا المكان غيره، وأنه هو الوحيد المستفيد منه، وبذلك يتجرأ على الإفساد فيه فيضر من سواه ومن يأتي بعده، وكذلك الذي يسرف في الاغتسال بالماء أو في الوضوء منه حتى لو كان على شاطئ نهر أو بحر، فإنه بذلك يضر من سواه، فنصيبه من الماء محصور

 

 

 

وأنتم اليوم تعيشون في زمان يسمى زمان الندرة في المياه، ويسمون الحرب العالمية القادمة حرب المياه، وقد بدأت اليوم في منابع الأنهار في تركيا وغيرها، فبين تركيا وسوريا حرب شعواء فيما يتعلق بالمياه، والعدو الصهيوني الآن يريد حربا على بلاد الشام الأخرى بتوقيف منابع المياه، فيلوي الأنهار ويستغل مياه بحيرة طبرية بحد غير معقول، وقد جف في بلاد سوريا وحدها اثنا عشر نهرا ما بين سنة اثنين وثمانين إلى سنة ثلاث وتسعين، كلها قد صرفت مجاريها عن مكانها المعهود، وكذلك فإن النيل الذي في شرق إفريقيا منابعه من أرض إثيوبيا وقد وزع توزيعا عالميا غير عادل، فأعطيت إثيوبيا نصيبها منه والسودان نصيبها منه ومصر نصيبها منه، ومع ذلك ما زالت هذه الدول تشكو سوء هذه القسمة، وقد كان نصيب مصر منه النصيب الأوفر على حساب السودان فبنت عليه السد العالي قديما، وأدى ذلك إلى ضرر كبير بكثير من البلاد السودانية التي غمرتها المياه وفسدت الزراعة فيها، وأدى إلى انتفاع مصر به في مناطق كثيرة لم تكن محلا للزراعة، ومثل هذا ما يحصل في كثير من البلدان التي يقع الخلاف فيها بسبب ندرة المياه، فأنتم تعلمون الآن التقسيم الموجود في نهر السنغال بين البلدان الثلاثة التي يمر منها هذا النهر والمفوضية القائمة لذلك والسدود التي أقيمت عليه مع أن الحصص غير متساوية والانتفاع به غير عادل، وهذا يدلنا على الندرة في المياه والحاجة إليها ومن هنا على البشرية أن لا تسرف في استعمال المياه، وأن تعلم أنها ملك للأجيال اللاحقة وقبل ذلك وبعده ملك لله سبحانه وتعالى الوارث الذي يرث الأرض ومن عليها، كذلك الإسراف في تعجل الخيرات والمنافع، فكثير من الناس يريدون تعجل ما لم يؤتوا فيبادرون إلى استغلال بعض الطاقات واستثمارها قبل أوانها فيكون ذلك مدعاة لإخراجها عن طوقها، وأنتم تعلمون أن البلدان الغربية أسرفت في البداية في المصانع فصنعت أكثر من حاجتها وأكثر من حاجة العالم لكن هذا الإسراف جاء على حساب العالم فأدى إلى التلوث البيئي الذي أثر في بعض الطبقات النافعة التي ترفع بعض أشعة الشمس الضارة وأذاب بعض هذه الطبقات، وما زالت البشرية تشكو ذلك إلى وقتنا هذا، وهذا التأثر البيئي أدى في كثير من الأحيان إلى تلوث جو بعض المناطق بالدخان والأتربة المرتفعة والرصاص، فبعض البلدان يقدر ما في هوائها من الرصاص الذي يدخل في تنفس الناس وفي الأكسجين بآلاف الأطنان من الرصاص وهذا مضرة واضحة، وقد علمت البشرية بخطرها فبدأت اليوم منظمة الجات تفرض ضريبة التلوث البيئي، لكنها مع الأسف لم تفرضها على المنتجات الغربية وإنما فرضتها على المنتجات الإسلامية فرضتها على النفط وأكثر من ينتج النفط البلدان الإسلامية بلدان الخليج أو نيجيريا والجزائر وليبيا أو بلدان الشرق الإسلامي مثل أندنوسيا وماليزيا، ففرضوا ضريبة التلوث البيئي على النفط فقط، والنفط مؤثر واحد من المؤثرات في تلوث البيئة، لكن لم يفرضوها على المفاعلات النووية، ولا على المفاعلات الكهربائية، ولا على الأفران التي تذيب الحديد التي أكثرها في البلدان الغربية، ولا على المناجم الكبيرة الضخمة التي في أمريكا وغيرها، ولا على مصانع الأدوية الضخمة في كثير من بلدان العالم، وهذا الإسراف اقتضى ضررا كبيرا ونشوء أمراض لم تكن معهودة في البشرية من قبل، واقتضى كذلك حصول زيادة وتضخم في موارد الميزانية وتوزيعها، فأصبحت معالجة التلوث البيئي مقتضية لبنود من بنود الميزانية لزراعة الأشجار ومكافحة تلوث البيئة حتى بالصناعات، فاليوم مزارع الدجاج في العالم تكلف تصنيع مواد تزيل رائحتها أو تقلل منها ويأتي ذلك بتكاليف باهظة جدا، وقد أخبرني رجل يملك مزرعة للدجاج قريبة من حي سكاني أنه يتكلف سنويا على مكافحة رائحتها والتلوث البيئي الذي يحصل عنها أربعة ملايين دولار، في تصنيع المواد المكافحة للرائحة التي تنبعث من مزرعة الدجاج فقط، كذلك فإن هذا التلوث البيئي اقتضى الهجرة من بعض البلدان، فمثلا في بيروت التي هي عاصمة من العواصم التي كانت متطورة يوما ما ولكنها نشأت فيها حرب قضت على الأخضر واليابس وما زالت الحروب فيها متوقعة إلى وقتنا هذا، نشأ في أيام الحرب كثبان كبيرة من القمامات، وأصبحت الأحياء القريبة من تلك الكثبان متضررة بالرائحة والتعفنات والأمراض، وإذا جاءت الأمطار نشأ حولها بعض المستنقعات المتلوثة فأدى ذلك إلى هجران تلك المناطق والانتقال عنها إلى مناطق أخرى، وتكلف الناس في ذلك مالا كبيرا في البناء وتخطيط الأراضي واستصلاحها وغير ذلك، وكذلك في القاهرة تسمعون المشكلة التي حصلت في العام الماضي عندما سقطت قطعة من جبل المقطم في شرق القاهرة بسبب إيقاد النار على القمامات عند هذا الجبل فسقطت قطعة منه تدحرجت أكثر من مائة متر، وكسرت ستين دارا هدمت ستين دارا، في القاهرة، وقتلت عددا كبيرا من الناس، وكان سقوطها في الثلث الأخير من الليل، فهذا ضرر واحد من أضرار التلوث البيئي، وأنتم تشاهدون الأمراض التي تنتشر في هذه البلدان بسبب التلوث البيئي ومنها الأمراض الوبائية كالحمى الوبائية ومثل الكوليرا والتسمم الغذائي وغير ذلك من أنواع الأمراض الناشئة عن التلوث البيئي، كذلك فإن هذه الموارد التي جعلها الله في الأرض لا بد أن تقع عدالة في توزيعها، وأن لا تكون دولة بين الأغنياء منكم، والعدالة في توزيعها مقتضية على الأقل للعدالة في توزيع الموارد العامة للبشرية، فالدخل القومي لكل بلد ينشأ عما جعل الله فيه من الخيرات وما يسر فيه من الطاقات التي يمكن أن تستخرج هذه الخيرات، وهذه الطاقات ليست مملوكة لشريحة اجتماعية معينة، بل هي مملوكة للجميع فعلى الناس أن يعدلوا في توزيعها وأن يقسموها قسمة عادلة وأن تعود بالخير والنفع على الجميع، إذا كان البلد سكانه ذوي عدد يسير، وخيراته ذات وفرة، وحاجيات أهله قليلة مثل بلادنا هذه فما العذر في أن تكون من أفقر البلدان في العالم، عدد الشعب قليل جدا، والخيرات كثيرة جدا من الأسماك والأراضي الزراعية الصالحة والمعادن النفيسة وغير ذلك حتى السوق التجارية الحرة المتسعة الأطراف المتنامية التي يشتري منها التجار من البلدان المجاورة وكذلك وفرة الصناعة في بعض الجوانب وسهولتها، وكذلك قلة المؤن وسهولة الاستغناء فهذا الشعب حتى الآن لم يغرق في الحضارة حتى تكثر لوازمه ومؤنه، وما زال كثير من الأمور التي هي ضرورية لدى بعض الشعوب الأخرى في العالم حاجية أو تحسينية لدينا مثل الهاتف مثلا، هل هو ضروري لكل الحاضرين، وهو ضرورة قصوى في كل بلدان العالم، وكذلك كثير من الأمور الأخرى التي لم نزل مستغنين عنها حتى الآن فما عذرنا ونحن أفقر البلدان ونسعى لأن نصنف على رأس لائحة البلدان الفقيرة في العالم، وهذا ما حاولت البلاد الموريتانية إقناع المنظمات العالمية به، ولكن المشكلة أن هذه الخيرات لم تسير تسييرا عادلا، ولم يوزع الناتج عنها توزيعا صحيحا، ولم يسلك بها طريقها الصحيح، ومن أجل ذلك فإن ديون هذا البلد الآن لو استمر على اتفاقه مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي فإنها لا يمكن أن تقضى قبل مائة وخمسين سنة، كم تتوقعون يتعاقب من الحكومات على هذا البلد خلال مائة وخمسين سنة، عدد كبير جدا، إنما سيقضي هذه الديون أولاد أولاد أولادكم، فأنتم الآن أكلتم نصيب أولئك الأولاد الذين لم يولدوا بعد من خيرات هذا البلد، وتركتم عليهم التبعات، فهم الذين سيقضون هذه الديون ولن يستفيدوا منها شيئا لأنه لم تقم بنى تحتية كافية لضمان الإنتاج والاستمرار لاقتصاد البلد، وكذلك فإن التضخم الاقتصادي الواضح في البلد الذي من أقل مظاهره وأدناها تراجع سعر العملة وتناقصها يوميا واضح جدا لا يستطيع اثنان أن يختلفا فيه، وليس له أي مبرر لو سيرت هذه الخيرات بعدالة ونزاهة، واستخرجت على الوجه الصحيح، وليست المسؤولية هنا قاصرة على حكومة أو حكومتين أو نظام مختص بل كل الأنظمة المتعاقبة مشاركة في هذا وحتى الشعب نفسه مشارك، فنحن نتكلم بهذا ونحن مشاركون في التقصير، فهذا الشعب حتى الآن لم يدخل في فطرته ولا في تفكيره الرشد، والرشد معناه الموازنة بين ما تحتاج إليه وما تستطيع، الذي تستطيع لا بد أن تقارن بينه وبين ما تنفقه، فإذا تعود الناس على ذلك وكان قناعة لدى الشعب ولدى عموم الناس فيسهل حينئذ بناء اقتصاد متماسك صحيح، إذا كان الإنسان لا ينفق أكثر مما ينتج، إن استطاع أن يزيد إنتاجه على نفقته فبها ونعمت، وإن لم يستطع ذلك على الأقل لم يزد إنفاقه على قدر طاقته، فإذا حصل الوعي بهذا وحصلت القناعة به فسيبنى الاقتصاد بناء سليما صحيحا، وإلا فسيستمر الدمار وستكون الأجيال اللاحقة أيضا تمد يدها يمينا وشمالا فلا تجد أي شيء مما يسد حاجاتها وضروراتها، ولاحظوا أن هذه الضرورات ستضطرد وتزداد وتتضاعف مع استمرار الزمن، فضروراتكم اليوم تختلف عن ضرورات أولادكم بعد ثلاثين سنة وبعد خمسين سنة، بعض الأمور التي تحسبونها تحسينية اليوم ولا يتملكها إلا بعض الأفراد القلائل ستكون بعد خمسين سنة أو ثلاثين سنة عامة على كل الناس، ألا تشاهدون اليوم كثرة السيارات وانتشارها في أفراد الشعب، وكانت أيام سنة ستين مثلا أو واحد وستين غير موجودة والناس لا يحتاجون إليها أصلا وهم في غنى عنها، حتى الأغنياء لم يكونوا يحتاجون إلى تملكها، وكذلك هذا التطور في الحاجات سيكون مستمرا وينبغي أن يواكبه تطور في الإنتاج حتى يزيد عليه، وهذا ما دعا إليه الشرع الحكيم وبينه رسول الله (ص) في عمله وسنته، وقد حذر من الانشغال بزخارف هذه الدنيا والإسراف فيها، وبين حدا وسطا بين نفض اليد عن الدنيا بالكلية، وبين الانغماس فيها بالكلية، فأنت لك جارحتان تتعاملان مع الدنيا، إحداهما لا حرج عليك في غمسها فيها وهي اليد، والأخرى لا يحل لك أن تغمسها فيها وهي القلب، فطهر قلبك من الدنيا واغمس يدك فيها، وحينئذ ستتصرف تصرفا حكيما، لن تكون مثل الذي يتبرأ منها بالكلية فيكون سلبيا كلا على من سواه، وهو من نفض يد بدنه ويد قلبه عن الدنيا، ولن تكون كالمنغمس فيها الذي ضاع في الأوحال ولم يستطع أن يخرج منها، وهذا الاعتدال تلاحظونه بالجمع بين النصوص، فإذا قرأتم قول  الله سبحانه وتعالى يخاطب رسوله الكريم (ص) {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى}، وقول الرسول (ص) «إن أخوف ما أخافه عليكم ما ستجدونه بعدي من زهرة الدنيا فإنها خضرة حلوة وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلم، إلا آكلة الخضر فإنها رتعت حتى إذا امتدت خاصرتها استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت ثم رتعت» وقارنتم ذلك بقول الله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} فهذه الخيرات للذين آمنوا في الحياة الدنيا مشروكين فيها، فيشاركهم من سواهم، لكنها خالصة لهم يوم القيامة، ومن هنا فإن الطيبات من الرزق والخيرات النافعة التي لا تلهي عن الله ولا تشغل عنه ولا تؤدي إلى الغفلة وقسوة القلوب هذا القدر من الدنيا الذي لا يطغي محمود مطلوب، وينبغي أن يسعى الناس لتحصليه وإنتاجه، والله تعالى أمرنا بالضرب في الأرض واستغلال ما فيها من الخيرات، ولم ينهنا عن التجارة بل قال: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} وعد التجار طبقة مهمة من طبقات المجتمع وشرائحه في قوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وكذلك فإن رسول الله (ص) حض على الإنتاج كثيرا فحض على الزراعة والغرس والصناعات النافعة، وبين أنه ما أكل أحد من كسب أطيب من كسب يده، وأن نبي الله داود كان يأكل من كسب يده، وكان داود يشتغل بالصناعات، وكذلك حذر رسول الله (ص) من الاتكالية فقال: «لأن يأخذ أحدكم حبله فيخرج إلى الجبل فيحتطب خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه» وحذر من المسألة فقال: «لا تحل المسألة لغني ولا لذي مرة سوي» ذي مرة أي ذي قوة سوي، وذكر أن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة، وذكر أن الصدقة لا تحل أيضا للمكتسب القادر، وبين (ص) أوجه الاكتساب الحلال، {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}، وحضنا على العمل، وعمل بيده (ص)، فغرس وزرع وكان يخصف نعله ويخيط ثوبه، وقال: «وجعل رزقي تحت ظل رمحي» وفي الرواية الأخرى: «اللهم اجعل رزقي تحت ظل رمحي، وكان (ص) يبيع ويشتري ويخرج إلى الأسواق، وكذلك عود أصحابه على هذا، وهذا كله مقتض منا أن لا ننفض أيدي أبداننا من الدنيا ولكن ننفض منها أيدي قلوبنا، فإنها سلاح ذو حدين ولو تركت لأهل الفساد فأصبحوا هم الأغنياء وهم الذين يملكون عرض الدنيا فإنهم سيذلون عباد الله ويعبدونهم لغير الله، ولا يعدلون في توزيع الخيرات بينهم، وحينئذ سيموت عدد كبير من الناس هزلا وجوعا، وسيطغى هؤلاء ويتكبروا ويتجبروا ويستغلوا أنواعا من الخيرات في غير ما وضعت له، فيزينون بيوتهم بأنواع الزخارف والناس يموتون من الجوع، وهذا ما حصل لقارون عندما خرج على قومه في زينته وقومه يعبدون ويذلون ويقتل أولادهم وتستحيى نساؤهم فيخرج عليهم في زينته وتمام ملكه، وكذلك فإن تحريم الربا داخل في هذا الباب فإن الله سبحانه وتعالى إنما حرم الربا لهذه الحكمة إذ المطلوب أن ينتج الناس وأن يحركوا الأموال وأن يستغلوها، والمرابي لا يحرك ماله بل يضطجع على أريكته وإذا أتاه شخص يريد منه قرضا أو مالا دفعه إليه بزيادة فهذا المال لم يستفد منه في تحريك أي مشروع لا في صناعة ولا في زراعة ولا في تجارة وإنما هو يرابي وهو مستقر في مكانه، فهو يستغل عرق الآخرين لزيادة ماله ولم ينتج هو شيئا جديدا، ومن هنا فإن المؤسسات البنكية هي مؤسسات مالية لكنها ليست مؤسسات اقتصادية، لا تفيد الاقتصاد شيئا وقد حاول أصحابها أن يجعلوا لها باب التمويل ليكون مشاركة في الاقتصاد لكن هذا التمويل كان وبالا عليه لأن الربا ينفق ثم يمحق ثم يحرق، ومن هنا فإن البلدان التي قامت فيها لا تزال تشكو الفقر والمشاريع التي مولت عن طريق البنوك مشاريع فاشلة لم تثمر ولم تؤت أكلها ولا بد أن تؤول إلى الفشل ولو بعد حين، وكذلك المؤسسات التي تقوم على أصل الربا في أي عمل كان فإنها ضارة بالناس لأنها تعودهم على الاتكالية واستغلال الآخرين وامتصاص عرقهم، وتحدث أيضا فجوة بين الناس ومدعاة للحسد بينهم، فأنت إذا رأيت الغني الذي يزداد غناه والفقير الذي يزداد فقره لا تلوم الفقير إذا حسد الغني وهو يراه يزداد غنى على حسابه هو، ومن هنا فإن الحزازة التي تحصل بين الأغنياء والفقراء التي كثيرا ما تؤدي إلى الثورات كما حصل في أوروبا في كثير من البلدان كانت الثورات فيها بسبب الإقطاع، فالثورة الفرنسية لماذا قامت؟ إنما قامت عندما تملك الأغنياء خيرات الأرض واستغلوا ما فيها، وأصبح الفقراء ضائعين في الشوارع وفي الغابات وتحت الأشجار لا يجدون لقمة عيش، ويستغلون استغلال العبيد، فثاروا وهم الأكثرية الكاثرة، وأخذوا حظهم وقاموا بثورتهم، وأدى ذلك إلى كثير من الظلم والفساد في الأرض، ومثل هذا ما حصل في بعض البلدان الإسلامية، فكلما فسد النظام واستحوذ على خيرات البلد واستغلها رجاله كلما ازدادت طبقة الفقراء والمهضومين والمضطهدين، وإذا ازدادت طبقة الفقراء فهي التي تثور ولا يمكن أن يقف في وجهها شيء، وإذا هدرت فستكون كالسيل الجارف الذي يقضي على كل ما كان أمامه ولا يقف في وجهه أي شيء، لاحظوا الثورة التي قامت في إيران بعد أن كان الشاه يتملك خيرات البلد ملكا خاصا له، فكل عائدات النفط تعود إلى جيب الشاه، وكل خيرات البلد تعود إلى جيب الشاه، وأسرته ووزرائه، فقامت الثورة التي كان الناس فيها يضحون بأولادهم وآبائهم وإخوانهم وقد شاهدتموها في الأفلام وقد شاهدنا فيها الرجل يسير مع زميله في الطريق في مسيرة فيقتل زميله فيغمس يده في الدم ويكتب بدم زميله شعارات الثورة على الجدران، وكذلك الثورة التي قامت في العراق عندما قام آل فيصل الذي هو ملك العراق بالاستحواذ على خيرات البلد واستغلال النفط أول ما ظهر وجعله ملكا خاصا لهم، فأصبحت حاشية الملك فيصل هم الأغنياء وازداد فقر من سواهم فقامت الثورة التي قتلوا فيها وجروا في الشوارع بالسيارات، فزيادة غنى الأغنياء وفقر الفقراء هي من سوء التسيير ونقص العدالة في توزيع الموارد وهي مدعاة للحسد وللبغضاء بين الناس ولتقطع الوشائج، ولا تؤدي إلا إلى الثورات والمقت والعصبيات، أما إذا حصلت العدالة في التوزيع فإن ذلك مقتض لاستقرار الأنظمة، حتى لو كانت الأنظمة كافرة، فالعدالة تستقر عليها الأنظمة مع كفرها، والجور والظلم لا تستقر فيه الأنظمة حتى مع إسلامها، ألا تلاحظون أن الأنظمة الغربية على ما فيها من فجور وفساد هي أعدل في التوزيع للخيرات بكثير بما لا يقارن من الدرجات من الأنظمة القائمة في البلدان الإسلامية ومن أجل هذا لا تسمعون انقلابا عسكريا في فرنسا ولا في بريطانيا ولا في أمريكا، ويتسلم الرئيس سلطته من أصوات الناس، وإذا هزم في الانتخابات جاء بكل رحابة صدر وسلم مفاتيح القنابل الذرية لخلفه الذي سيخلفه في الرئاسة ويودعه بابتسامه ويسير إلى التاكسي فيأخذها ويسير على الشوارع يأخذ رزقه من التاكسي، كحال جون ميجر يسوق تاكسي، يكتسب به، وقد سلم مفاتيح القنابل الذرية لخلفه الذي انتخب مكانه، وما ذلك إلا للعدالة في التوزيع فإن الوزير والرئيس ورئيس الحكومة وأي مسؤول لا يمكن أن يختص نفسه إلا بحظه ونصيبه الذي يستوي فيه أبعد الناس من السلطة وأدناهم منها، وبهذا تستمر الحكومات ولا تقع الانقلابات ولا تقع الفوضى ولا تقع الثورات، ولهذا لا تكادون تجدون بلدا من البلدان في العالم الثالث إلا وفيه محاولات انقلابية وثورات ومشكلات، وأنتم في بلد إفريقيا في بلد الانقلابات والحروب الأهلية التي ما زالت الآن بعد أن تعب الناس في حرب كابيلا وقضت على نصف مليون من سكان بلاده بعد أشهر قليلة أظهر من الاستبداد والطغيان ما لم يظهره سلفه، فبدأت الثورة عليه من جديد، وكذلك في غير هذا من البلدان فالحرب القائمة الآن في غينيا بيساو سببها هو الاستبداد وعدم العدالة في التوزيع، وكذلك الحرب القائمة في ليبيريا وكذلك الحرب التي قامت الحرب الأهلية التي قامت في روندا وقضت على أكثر من ثلاثة ملايين من البشر، وكذلك الحرب القائمة في الصومال التي ما زالت مستمرة إلى اليوم، والحروب التي تقوم الفينة بعد الأخرى في جيبوتي والانقلابات التي تقوم في أثيوبيا وغيرها من البلدان فالعدالة في توزيع موارد البلد بين سكانه مدعاة للاستقرار والاستمرار، ومدعاة لأن يستمر النظام بأمان، ومدعاة لعدم حصول الحسد والبغضاء بين الناس، وعدم حصول الشحناء التي كثيرا ما تؤدي إلى أن يظلم بعض الناس بعضا ويستغله، ويعيش على حسابه فيكون بمثابة الطفيليات التي تعيش على حساب غيرها من الحيوانات، كذلك فإن حصول الغش والسرقات والغصب والتعدي على أملاك الآخرين يقتضي كذلك عدم العدالة فيكون القوي هو الذي يأخذ نصيب الأسد ويبقى الضعيف لا شيء له، وأنتم تشاهدون هذا في تقسيم الأراضي، فالأغنياء والأقوياء هم الذين يأخذون القطع الأرضية المتعددة، والفقراء وأصحاب الأسر الكثيرة الأفراد لعجزهم وضعفهم لا يملكون ما يستطيعون السكن فيه، فهذا النوع سببه التعدي والغصب والسرقة ومن أجله تتفشى الرشاوى، فهذه الرشاوى التي هي مرض عضال وقد شعرت أكثر الحكومات في العالم بخطرها وكذلك الوساطات التي تغير القوانين وتعتدي حتى على الدساتير، ويعزل بها الصالحون ويعين بها الفاسدون كلها خطر من أخطار عدم العدالة في التوزيع، لو كانت الموارد موزعة توزيعا صحيحا وكانت الفرص موزعة توزيعا صحيحا لما احتاج الناس إلى دفع الرشوة ولما احتاجوا إلى الوساطات ولما احتاجوا إلى أن يسلكوا الطرق الملتوية، كذلك فإن العدالة في التوزيع تقتضي التشجيع على الإنتاج، إذا كان الإنسان الذي هو في مؤسسة عمومية يعرف أن ثمرة هذه المؤسسة للشعب كله وللأمة وهو سيستفيد مع غيره فهذا مدعاة لتفانيه في الإنتاج، أما إذا كان يعلم أن هذه المؤسسة لا مصداقية لها، وأن ثمراتها وإنتاجها هي إلى جيب خاص سيأخذه مديرها أو رئيسها فإنه لن يتعب نفسه في العمل، ألا تلاحظون هذا، إن الموظفين منكم يدركون أنهم لا ينصحون في أعمالهم، وسبب ذلك عدم المصداقية في المؤسسة التي يعملون فيها، إذ لو كانت المؤسسة عادلة في التوزيع ذات مصداقية يعرف الموظف فيها أن ثمراتها وإنتاجها لصالح الشعب لتفانى فيها وقدم فيها كل الخدمات، لكنه حين عرف أنها تختص بجيوب أقوام وأنها لا مصداقية لها وأنها لا رقابة عليها نجحت أو فسدت فالمهم أن تكون المؤسسة مؤسسة فقط فمن أجل هذا حصل ما ترونه من الفساد الإداري، وهو الذي وعدنا به الرسول (ص)، وجعله علامة من أشراط الساعة، فقال: «إذا رفعت الأمانة فانتظر الساعة» قلت: وما رفعها؟ قال: «إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة»، أضطر لقطع الحديث وما هو إلا رموز وإشارات لها ما وراءها وأنتم تدركون بها أمثالها بل أضعافها مما تعيشونه في حياتكم فحسبنا أن ننبه إلى بعض مظاهر العدالة الاجتماعية في الإسلام، ومخاطر خلافها، فمخاطر الجور الاجتماعي في الإسلام وضرر ذلك على الاقتصاد بالدرجة الأولى هو الذي يعنينا وهو الذي عسى أن تستخلصوه من كل ما قلناه، فهذا الكلام الذي سمعتموه تستخلصون منه أن العدالة الاجتماعية هي أساس الاقتصاد في الإسلام لأنها هي التي تشجع على الإنتاج وهي التي يستغل بها كل الخيرات، وهي التي تزاد بها الطاقات وتستثمر استثمارا نافعا، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وحسبنا الله ونعم الوكيل.

 

الأربعاء, 08 ديسمبر 2010 15:20
 

آخر تحديث للموقع:  الأحد, 20 أكتوبر 2024 09:45 

اشترك في القناة

فقه الحج

موقع مركز تكوين العلماء

برامج تلفزيونية

جديد الموقع

إحصائيات

المتصفحون الآن: 68 

تابعونا علــــى:

تابِع @ShaikhDadow