مصدر عزة المسلم

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد فإن الله فطر الإنسان على حب العزة، فهو يسعى للوصول إليها بشتى الطرق وبكل الوسائل، لكن هذه العزة لها أسباب موصلة إليها ولا تنال بدونها، وكثير من الناس يبحث عنها في غير محلها ويطلبها في غير مُتَطَلَّبِها، فجمهور الطالبين للعزة يبغونها بأمور الدنيا الفانية بما فيها من سلطان ووسائل قوة عاتية، وبما فيها كذلك من ملك وكثرة وثروة وغير ذلك، وهذه كلها ليست أسبابا للعزة، وقد بين الله تعالى ذلك في كتابه نصا بقوله: {أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا}، فالعزة كلها لله سبحانه وتعالى،

وإنما ينال المخلوق العزة بالاتصال بالخالق سبحانه وتعالى والاعتماد عليه والتوكل عليه سبحانه وتعالى وحده، ولهذا قال الله تعالى، {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يفقهون}، فالمنافقون كانوا يظنون أن الفقراء من المهاجرين الذين ليس لهم وطن ولا مال وليسوا في ديارهم وقد أخرجهم أحب الناس إليهم وأولاهم بهم ليس لهم حق في العزة، ولذلك قالوا في غزوة بني المصطلق: {لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل}، فيظنون أن هؤلاء الفقراء الذين امتدحهم الله بالفقر وأثنى عليهم به في كتابه ليس لهم ملجأ وليست لهم عزة، ولا يمكن إلا أن يخرجوا من هذه المدينة بعزة المنافقين الذين لهم المال والأولاد والمكانة الاجتماعية، لكن الله سبحانه وتعالى بدد هذا الرأي ورد على زاعميه وأبطله بالكلية، فرسول الله (ص) هو من المهاجرين، وقد خيره الله بين أن يكون نبيا ملكا وأن يكون نبيا عبدا فاختار أن يكون نبيا عبدا، وكان يسكن في حجر لو قام الرجل للامست يده سقفها، وينام على حصير يؤثر في جنبه بأبي هو وأمي (ص)، فإذا استيقظ إذا أثر العيدان في أضلعه بأبي هو وأمي (ص)، ويمكث ثلاثة أشهر تباعا لا توقد في بيوته نار، ويجتمع على عداوته أهل الأرض جميعا فيرد الله كيدهم في نحورهم ولا ينالون منه أي نيل، وينال هو ما كتب الله له وما تعهد له به من النصرة والتمكين، إن رأي المنافقين رأي داحض لكنهم عبروا عنه في عدة مواقف، فعندما كان يوم الأحزاب وحوصر رسول الله (ص) والمؤمنون بين لابتي المدينة وهم نفر قليل لا يتجاوزون ألفا وخمسمائة رجل، وليس لهم أي مدد خارجي، وقد جاءهم الكفار من أهل جزيرة العرب من المشركين من فوقهم، وجاء اليهود من أسفل منهم ووصف الله ذلك الموقف بالوصف العظيم إذ قال: {إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا}، عبر المنافقون عن هذا الموقف فقالوا فيما حكى الله عنهم: {إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا}، فقالوا: يزعم محمد أنه ستفتح عليكم كنوز كسرى وقيصر، وها أنتم اليوم لا يستطيع أحد منكم أن يخرج لقضاء حاجته، فلم تمض ست سنوات حتى فتح الله كنوز كسرى وقيصر على أولئك الفقراء المحصورين في المدينة وأنفقت في سبيل الله، فعلم أن زعم المنافقين داحض باطل، وأن ما كانوا يتوقعونه من أن النبي (ص) وأصحابه لن يعودوا أبدا ولن تكون لهم أية دولة في هذه الأرض هو الزعم الباطل وهو ظن السوء، وقد عبروا عن ذلك أيضا في موقعة أخرى عندما خرج رسول الله (ص) لغزو اليهود في خيبر، وقد جمع اليهود كل قواهم وناصرهم مشركو العرب ونصارى الشام واجتمع لهم من المال والكراع والسلاح فوق ما كانوا يتوقعون، وملؤوا حصونهم بأنواع الأزواد والتجارات، فخرج إليهم رسول الله (ص) غازيا في ألف وخمسمائة مقاتل وهو يركب حمارا، فقال المنافقون: أتظنون أن محمدا يعود إليكم، تالله لن يعود إليكم بعد عامه هذا، وليقتلنهم اليهود قتل عاد وإرم، فأنزل الله تعالى على النبي (ص) في سورة الفتح: {ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء}، وقد بين الله هذا الظن فيما حكى عنهم في قوله: {بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا}، فقد كتب الله العزة لرسله أجمعين، وقَفَّى على آثارهم بمحمد (ص) وكتب له العزة وكتب المذلة والصغار على كل من خالف أمره، ونصره بالرعب مسيرة شهر وترك ذلك النصر لأتباعه، إن هذه العزة التي يبغيها الناس ويلتمسونها إنما تبتغى بالتذلل إلى الله سبحانه وتعالى والخضوع بين يديه وبأداء عبادته على وفق ما شرع، وباتباع رسوله الكريم (ص) في كل ما جاء به، ولذلك فلا شك أن الله سبحانه وتعالى قد كتب القبول في الناس لأولئك الفقراء والمساكين الذين لا يملكون شيئا وليس لهم ناصر، فالمؤمنون في مشارق الأرض ومغاربها اليوم يود أي إنسان منهم لو رأى ثوبا قد لبسه بلال بن رباح، أو عمار بن ياسر، بمجرد رؤية شيء قد لامس تلك الأجساد الطاهرة يفرح المؤمنون لأن الله كتب في قلوبهم المحبة لأولئك الناصرين لله ورسوله، الذين جعل الله لهم العزة الباقية الخالدة، وما تشهدونه في قلوبكم من محبة أولئك النفر لا يساوي شيئا مما أعد الله لهم من العزة في الدار الآخرة، فقد ذكروا في الملإ الأعلى قبل أن يذكروا في الملإ الأدنى وقد صح عن النبي (ص) أنه قال: (إذا أحب الله عبدا نادى جبريل إني أحب فلانا فأحبه فيحبه جبريل، ثم ينادي به جبريل في أهل السماء إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض)، إن هذه العزة التي نشهدها في قلوبنا لأولئك النفر الذين ضحوا وبذلوا في سبيل الله ولو كانت تضحيتهم قليلة يسيرة فلا يمكن أن تقارن بشيء مما يأتي من بعد، فقد قال رسول الله (ص): (لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل جبل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)، مجرد مد من الشعير ينفقه أحد أولئك الفقراء الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم في سبيل الله ونصرة لرسوله (ص) لو أنفق أحد من مَن يأتي بعدهم مثل جبل أحد ذهبا ما بلغ ذلك المد عند الله، فميزان الله ليس مثل موازين أهل الدنيا الذين ينظرون إلى الماديات الفانية وينظرون إلى الغناء والفائدة كما قال أحد المنافقين: ما يغني مد هذا عن الله ورسوله، عندما جاء رجل من الأنصار لا يملك إلا مدا من شعير جاء يحمله في طرف ثوبه، فقال: المنافقون ما يغني مد هذا عن الله ورسوله، فالله سبحانه وتعالى هو الغني وإذا أمر عباده بالإنفاق فإنما ذلك ليقدموا لأنفسهم، وهو الذي يضاعف لمن يشاء وقد بين مثلا غريبا في المضاعفة في الحبة الواحدة تزرع في الأرض، فتخرج منها سنبلة في كل سنبلة سبعمائة حبة، وتزداد السنابل إلى أن تصل إلى سبعمائة سنبلة وهكذا، فهذا التضعيف هو مثال فقط يفهم به تضعيف الله سبحانه وتعالى لأعمال من ارتضى خدمتهم وعبادتهم، إن الله سبحانه وتعالى غني عن كل ما يقدمه عباده، {لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم}، فكل ما يقدمه العباد من الطاعات لا يحتاج الله إليه في شيء من نصرته فقد قال في كتابه: {ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض}، ولهذا فإن الناس لا يثابون على قدر الغناء والبلاء، وإنما يثابون على قدر ما وقر في القلوب من الإيمان واستقر فيها من التقوى، وأبرك غزوة وأكثرها أثرا هي غزوة الحديبية التي لم يقع فيها قتال ولم ينفق فيها كبير مال ولا استشهد فيها أحد في سبيل الله، لكن علم الله من قلوب أصحاب محمد (ص) الصدق والتقوى، فأنزل عليهم رضوانه الأكبر الذي لا سخط بعده، فهم يسيرون على الأرض قد غفرت ذنوبهم، لا تقع ذنوبهم إلا مغفورة، ولن يلج أحد بايع تحت الشجرة النار، ولذلك قال: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزا حكيما}، فأولئك القوم علم الله من قلوبهم الصدق والإخلاص فعجل لهم رضوانه الأكبر الذي لا سخط بعده وعجل لهم الفتح والتمكين، لأنهم تبايعوا مع الله عز  وجل فأربح الله بيعتهم، وعندما انتهت البيعة قال جابر: نظر إلينا رسول الله (ص) فقال: أنتم خير أهل الأرض، وقال (ص) والذي نفس محمد بيده لا يلج النار أحد بايع تحت الشجرة، فقد عاشوا بهذه العزة، من عاش منهم فوق الأرض يسير على قدميه وهو يعلم أنه من أهل الجنة، ويعلم أنه لا يحجب عن الله حتى لو زنى ولو سرق ولو شرب الخمر فلا يقع ذنبه إلا  مغفورا، إنها العزة التي ما فوقها عزة، إن أولئك القوم أدركوا أن ما يتنافس الناس فيه من شأن هذه الدنيا فان لا بقاء له، فلذلك بايعوا على الموت، علموا أن الذي يستحق أن يتنافسوا فيه هو الخالد الباقي الذي لا انقطاع له، إن الإنسان لو نال ملك شداد بن عاد على هذه الأرض وعاش ما عاش نوح عليها لا بد أن يكون مصيره إلى الزوال، ولا بد كذلك لو قدر بقاؤه مدة طويلة كإبليس أن يمل البقاء، فهذه الدنيا مملولة وكل ما فيها من الملذات منقطع، أما نعيم الجنة فإنه لا يزول ولا ينقطع ولا يمل شيء مما فيها، {كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها}، فلا يملون شيئا مما فيها، بحال من الأحوال، ولا ينقطع شيء من ملذاتها، فاللذة الأولى التي ينالها الإنسان عندما يصل إليه شيء من روحها وريحانها تستمر ولو جاء بعدها مليارات الملذات كل ملذة تبقى ردفا للأخرى دون انقطاع، فلا ينقطع شيء من نعيمها، إن أولئك القوم حين صدقوا بهذا وشربته قلوبهم، وكتب الله الإيمان في قلوبهم، عرفوا أن ما يتنافس الناس فيه لا يساوي شيئا، وأن الذين ينشغلون به هم الذين ينشغلون بالتوافه الفانية فرأوهم على قدر هممهم، فمن كان همه مقصورا على هذه الحياة الدنيا وزخارفها الفانية فإن همته نازلة ضعيفة إنما يهتم بالحضيض المملول الزائل ولذلك لو أراد الإنسان أن يعرف قيمة ما يتنافس الناس عليه في الدنيا فلينظر إلى القمامات، فسيجد نماذج كل ما يتنافس الناس عليه، يتنافس الناس على المباني الشاهقة وستحطم بعد سنوات قليلة وتجد حطامها في القمامات، يتنافسون على الملابس الجميلة والفرش الوثيرة، وستجد بقاياها مرمية في القمامات، يتنافسون على المآكل والمشارب وغير ذلك وستجد آثارها مرمية في القمامات، يتنافسون على السيارات أوالطائرات أوغير ذلك، وستجد بقاياها مرمية في القمامات، إن الدنيا هكذا كلها، وقد صح عن النبي (ص) أنه قال: كان حقا على الله أن لا يرفع شيئا من الدنيا إلا وضعه، لهذا احتجنا إلى أن نراجع قليلا هذا الأصل من أصول التصور وهو أصل مبتغى العزة من أين تطلب وما هي وسيلة الوصول إليها؟

إن الإنسان أول ما ينبغي أن يتصوره أنه عبد مملوك لله، وأنه موظف في مهمة محددة، وأن عليه الرقابة التي لا يفوتها شيء، لا يمكن أن يخفي شيئا من شؤون نفسه عن الله، وأن له أمدا محددا ووقتا محددا إذا لم يؤد فيه المهمة فلا يمكن أن يتداركها أبدا، إذا عرف الإنسان هذا عرف أنه هنا ما جاء إلى هذه الحياة الدنيا ليعيش أبدا سرمدا ولا جاءها ليبقى أبد الآبدين، ولا جاءها لتكون داره الباقية، إنما جاءها ليجعلها زادا يتزود به في رحلته إلى الدار الآخرة، ومن هنا فسيحرص على ما هنالك وعلى ما أمامه، وسيعامل هذه الدنيا معاملته لشجرة يقيل تحتها ينتظر زوال الشمس أو دلوكها ليخرج في سفره الطويل، قال رسول الله (ص): ما لي ومال الدنيا، إنما أنا كراكب استظل تحت شجرة، فالدنيا هكذا هي مثل ظل الشجرة يستظل تحته الإنسان ليقيه حر الهاجرة لكنه وهو مسافر لا يمكن أن يركن إليه ويستقر فيه بل لا بد أن يقطع المسافة في الوقت المحدد، إن الذي يريد العزة لا بد أن يتحرر من الأغيار كلها وأن يكون عبدا خالصا لله، فما دام الإنسان يجد في نفسه ركونا وميلا ومحبة لشيء مما في هذه الدنيا حبا غير طبيعي بمعنى الحب الذي يقتضي تجاوزا لكل القناعات والتصورات فليعلم أنه لا يمكن أن ينال العزة بذلك بل ما زال رقيقا ذليلا لشيء من الدنيا الفانية وما دام يستجيب للضغوط في هذه الحياة وتأخذه في الله لومة لائم، يخاف من أحد سوى الله، يتذكر أن عقوبة ستحل به من أحد غير الله فإنه لا ينال هذه العزة، ألا ترون إلى الموقف العزيز الذي وقفه إبراهيم عندما كاد له أهل الأرض جميعا وأولهم أبوه وأعمامه وأقاربه، فألهمه الله الحجة عليهم وأظهره، {وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم}، فإنهم عندما حاجوه قالوا له: نحن نملك كل شيء وسنوقد لك النار ونرميك فيها ولن تؤثر في شيء من أمورنا ولن تغير شيئا من قناعاتنا، فماذا كان جواب إبراهيم: {قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون}، إنها الحجة البالغة التي ألهمه الله فقطعت على أولئك القوم كل ما كانوا يلهجون به من الحجج وكل ما كانوا يفكرون فيه من آلياتهم وقوتهم المادية فإن إبراهيم ذكر لهم علاقته بالله وتوكله عليه، وهذه العزة أيضا ظهرت في تجل آخر لموسى عليه السلام عندما خرج ببني إسرائيل يسري بهم ليلا هجرة في سبيل الله، فلما طلع الفجر إذا البحر من أمامهم، وإذا فرعون وجنوده من ورائهم، فقال له أصحابه: {إنا لمدركون}، فماذا كان موقف موسى؟ قال بكل ثقة وطمأنينة: {كلا إن معي ربي سيهدين}، وقد شاهد قومه ذلك عندما أمره الله أن يأخذ تلك العصا النحيلة النحيفة فيضرب بها البحر فينفلق البحر، ويكون أطوادا كالجبال العظيمة، ويسلك موسى وقومه طريقا في البحر يبسا {لا تخاف دركا ولا تخشى}، ويتبعه فرعون بجنوده حتى إذا توسطوا البحر اغتلم وفاض فابتلعهم ولم يترك منهم أية باقية، ونجد هذا الموقف أيضا يتكرر مع محمد (ص) وأصحابه، عندما أتاهم نعيم بن مسعود، فقال: {إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله}، إن الذي يصل إلى مقام التوكل على الله سبحانه وتعالى وتمام الثقة به هو العزيز الذي لا يعتري عزته أي تراجع، لأنه يعلم أن عزته من عزة الله الباقية الخالدة، وقد كتب الله هذه العزة للسالكين لهذا الطريق، فليست خاصة بأشخاص فلا يمكن أن يقول إنسان كانت تلك المواقف لأولئك الأنبياء وقد انتهت، بل هذا الحال متكرر مستمر كل مؤمن مكلف يؤمن بالله ويرضى به ربا يتكرر معه الموقف نفسه إذا تراكمت الضغوط وجمع أهل الدنيا قواهم وحشروها، فإن كان هو صاحب عزة بالله فإنه سيقول ما قال نوح: {فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون}، ويقول ما قال هود {إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم}، وبذلك سيرى أن الأرواح كلها بيد الله سبحانه وتعالى متى شاء قبضها ومتى شاء أرسلها، {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى}، ويعلم أن القلوب أيضا بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، فالذي يرهبه ويتذكر عداوته أليس يذل لسلطان الله تعالى؟ أليس في قبضة يمينه؟ إن رسول الله (ص) قال لرسولَيْ كسرى عندما أتيا: أرسلكما كسرى؟ فقالا: نعم، قال: قتله ابنه البارحة، الذي يخافه هذان الرسولان، ويسافران من أجل سلطانه وأمره مسافة شاسعة قد قتله ولده البارحة، إن من يعلم أن الله سبحانه وتعالى بيده الأمر كله وإليه يرجع الأمر كله لا يمكن أن ينخدع بشيء من أمور هذه الدنيا الفانية وهو يعلم أنها امتحان وتسليط من عند الله سبحانه وتعالى، فما الناس فيها في سلطان الله إلا كالنمل وأنواع الحشرات، فكلها مرسلة فإذا أرسل الله سبحانه وتعالى ضررا فلا بد أن يصل، ولا تنجي المذلة أمامه، وإذا لم يرسله فلا يمكن أن يضر ولا أن يصل بوجه من الوجوه، {ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده}، {وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير}، {وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو  وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده}، إن المؤمن الذي يعتز بالله سبحانه وتعالى وبمنهجه ينظر إلى ما يجري في الأرض كما ينظر الناس إلى ما يجري في السماء، فالله سبحانه وتعالى بين أنه يرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء، وبين أنه يرسل في المطر ما يرسل فيه من أنواع الضرر وأنه يصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء، يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار، إذا نظر الإنسان إلى تصرفات أهل الدنيا وما فيها وأنه مقدر مكتوب وأنه رفعت الأقلام وجفت الصحف عما هو كائن فلا يمكن أن يخاف مخلوقا لعلمه أن ما يصيبه فهو من عند الله لا يمكن أن يصرف عنه وأن ما لم يقدر الله إصابته له لا يمكن أن يناله بوجه من الوجوه،«أي يومي من الموت أفر** يوم لا يقدر أم يوم قدر** يوم لا يقدر لا أرهبه** ومتى يقدر لا ينجو الحذر» فإنما يقتضي ذلك من الإنسان تمام العزة بالله سبحانه وتعالى، والاتصال به على الوجه الذي يرضيه، إن الله سبحانه وتعالى يسر  للإنسان سبل الخير وأقام عليه الحجة بكل هذه الأمور  التي ذكرناها، لكن كثيرا من الناس ينشغل عن تلك السبل بأمور أخرى وببنيات الطريق فيظن أن مخلوقا من المخلوقين يمكن أن ينفعه أو أن يضره، وأنه إذا تقرب منه فأصبح من المنسوبين إليه أو من ذوي بلاطه أو من الذين يرحبون به في المناسبات أو يظهرون معه في وسائل الإعلام أنه سينال بذلك عزة ومكانة، وهذا غاية الغلط في التصور، فإن الله تعالى يقول: {يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له، وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب}، ولذلك فإن رجلا من أهل اليمن جاءه رسول من عند ملك غاضب فقال: يدعوك الملك الآن للحضور، وإذا الرسول مصر على الإسراع، فقال له: أتسمح لي يا سيدي بسؤال؟ فقال: تفضل، فقال هذا الملك الذي يدعوني للحضور هل يذهب إلى الخلاء هل يحتاج إلى الماء؟ فقال كيف تسأل هذه الأسئلة، قال: إن من يذهب إلى الخلاء ويحتاج إلى الماء لا يمكن أن يخاف منه، فإذا عجلنا نحن وأتينا في الموعد قد يكون هو مشغولا بأمر من هذه الأمور ، وكذلك الحال بالنسبة لجانب الطمع، فلا بد أن يتذكر الإنسان أن الرزق كله بيد الله، وأنه لا ينال منه إلا ما كتب له بحال من الأحوال، لو تنازل عن كرامته وعن شخصيته ورضي أن يكون من السدنة والخدام فإنه لا يمكن أن يرزق بأكثر مما كتب له بحال من الأحوال، لا يمكن أن يزيد بقدر ما تحمله النملة من رزق مهما سدن وخدم، إذا تذكر الإنسان ذلك عرف أن الذي يستحق أن يرغب فيما عنده وأن يطمع فيما عنده هو الملك الديان وحده، ولذلك يقول المكودي رحمه الله: «إذا عرضت لي في زماني حاجة** وقد أشكلت فيها علي المقاصد** وقفت بباب الله وقفة ضارع** وقلت: إلهي إنني لك قاصد** ولست تراني واقفا عند باب من** يقول فتاه سيدي اليوم راقد» فالذي ينام ويمرض لا يمكن أن يطمع فيه الإنسان لأنه لو كان يمكن أن ينفع لنفع نفسه ولما احتاج إلى غيره، فلذلك لا بد أن تلتمس العزة من عند الله وحده، إن هذه العزة قد كتبها الله للمؤمنين لكن ليس ذلك لكل مؤمن، بل لا ينالها من المؤمنين إلا من جاهد نفسه حتى يصل إلى مقام التوكل على الله سبحانه وتعالى، إن كثيرا من النصوص التي فيها وعد أو ذكر لمقام من المقامات ينسب إلى المؤمنين لا يقصد بها أنها لكل مؤمن ومؤمنة، بل إنما ينالها خواص المؤمنين الذين جاهدوا أنفسهم حتى استقامت على منهج الله، فأولئك هم الذين يستحقون هذه الميداليات ويستحقون هذا التشريف من عند الله، فالذين لا ينالون هذه العزة من الذين آمنوا ليس معنى ذلك أنهم غير مؤمنين لكن معنى ذلك أنهم ناقصو الإيمان، فإنما ينالها من جاهد نفسه حتى يصل إلى مقام التوكل وهو من المقامات العالية في الإيمان، إن خالد بن الوليد رضي الله عنه لما فتح الله عليه في غزوة اليرموك سأل الروم عن أضر أسلحتهم، فأشاروا إلى سم يقتل من ساعته، فقال: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، وشرب ذلك السم، ثم قال: ما أضر شيء بعد هذا السم فقالوا الشمس، فجلس في الشمس بارزا والروم يعجبون، فهذا السم بمجرد شم رائحته وهو نفاث يموت الإنسان، والشمس أضر شيء على المسموم وخالد يشربه ثم يجلس في الشمس، ولا يتأثر ويجعل يقضي بين الناس في خصوماتهم وهو جالس في الشمس، فكان ذلك سببا لإسلام الأسرى، فكان كلما أسلم أسير وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قام إليه خالد فحل نسعته وقال: أنت الآن أخونا يلزمك ما يلزمنا وعلمه ما يلزمه من أحكام دينه ولا ينتهي من تعليم أسير حتى يتهيأ أسير آخر للإسلام فيتقدم إليه خالد فيحل نسعته، إن أولئك شاهدوا هذه العزة عند أولئك القوم فكانوا مثلا عاليا بالنسبة إليهم، فكان ذلك سبب إيمانهم وإسلامهم، إن هذا الحال الذي حصل لخالد بن الوليد عندما توكل على الله سبحانه وتعالى واستعاذ به، لا يمكن أن يعترض عليه بأنه فعل أمرا محرما مخالفا للشرع حين شرب السم ولا يحل للإنسان أن يشربه، لأن ذلك بحسب حال الإنسان نفسه، فإن كان موقنا وصل إلى درجة اليقين بأنه لا يضره شيء إلا ما كتب له، وأيقن أنه سمع هذا الحديث من رسول الله (ص) وأن من قال: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ثلاثا لم يضره شيء، فأيقن هو بذلك، فحينئذ يسوغ له ما لا يسوغ لغيره، ولا يتحقق له ذلك، ثم إن الذين جاءوا بعدهم من الذين سلكوا هذا الطريق أظهروا هذا المستوى من العزة بالله سبحانه وتعالى، حتى في أشد المواقف وأضيقها، فهذا الإمام أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني يرسله خليفة المسلمين إلى ملك الروم للمفاوضة، وكان السفراء في أيام عزة الإسلام هم العلماء الكبار، فإذا اشتهر عالم من كبار علماء المسلمين يختاره الخليفة رسولا ليفاوض باسم المسلمين كما فعل عبد الملك بن مروان حين أرسل عامرا الشعبي إلى الروم، وكما فعل ملك بني العباس حين أرسل أيضا أبا بكر الباقلاني إليهم، وكان من عادة الروم أن كل من دخل إلى بلاط الملك لا بد أن يركع بين يديه، فقالوا: كيف نُرَكِّعُ هذا العالم، فجاء عقلاؤهم ففكروا، فجعلوا سلما في الباب الذي يدخل منه إلى مجلس الملك ولم يتركوا من طول الباب إلا قدر ما يدخل منه الرجل راكعا، فلما جاء الباقلاني رأى هذه الحيلة ففهمها، فولاهم دبره وجاء يزحف إلى الوراء، فجعل الملك يده على وجهه حياء من هذا المنظر وعرفوا أنهم لم يصلوا منه إلى مبتغاهم، فلما رأى وجهه قام إليه إعجابا وتقديرا فأجلسه معه على سريره وقال: يعرفه بمن في مجلسه هذا الذي على يمينك البابا رئيس الكنيسة رئيس الدين عندنا، فانصرف إلى البابا فسلم عليه وقال: كيف زوجتك وأولادك، فضج كل من في المجلس وقالوا: نحن نجله عن هذا الذي تسأله عنه، فقال: سبحان الله لا تجلون الذي خلقه عنه وتجلونه هو، تزعمون لله صاحبة وولدا وتجلون البابا أن يكون كذلك، فألقمهم جميعا حجرا وخرج من مجلسهم، ومثل هذا ما تكرر مع شيخ من شيوخ دمشق كان في الجامع الأموي وقت دخول إبراهيم باشا وهو ملك مصر عندما دخل بجيوشه فاجتاح دمشق سأل من بقي من أعيان دمشق لم يستقبلني؟ قيل الشيخ فلان هو ذاك جالس في مسجد بني أمية يدرس طلبة العلم، فقال: تعالوا بنا نذهب إليه، فخرج إليه الملك مع جنوده والأتراك يلبسون السلاح، حتى دخلوا المسجد فوقفوا على الشيخ فما غير جلسته ولا قطع حديثه ولا تأثر وجهه بالنظر إليهم، فلما دخلوا قال له أحد الطلاب هذا الملك وجنوده قد دخلوا المسجد، فقال: حدثنا أن النظر في وجوه الظلمة يقسي القلب، فأمر الطلاب أن لا ينظروا إليهم بأعينهم لئلا تقسو قلوبهم، فجاء الملك متواضعا حتى جلس بين يديه فاستمر الشيخ في حديثه والملك يستمع إلى الحديث حتى أنهى الدرس فسلم عليه فرد عليه السلام ثم إن الشيخ مد رجله في وجه الملك وهذا مما يستعظمه الأتراك، والأعاجم يرونه غاية في الإذلال والمهانة، فقام الملك فأرسل إليه مالا عظيما فلما جاءه الرسول يحمل المال قال ارجع إليه فقل له إن من يمد رجله لا يمد يده، إن هذه العزة إنما ينالها الصادقون مع الله سبحانه وتعالى، ثم إن الذي يصل إلى هذا المستوى من التوكل على الله سبحانه وتعالى والثقة به لا يمكن أن يتأثر للمصائب الدنيوية حتى لو أهين بأنواع الأذى وابتلي بأنواع البلاء سيبقى عزيزا صامدا على كل ذلك، فهذا أحمد بن حنبل مكث في السجن ثماني عشرة سنة وفيه القيود في يديه ورجليه، ويضرب بالسياط على أن يقول كلمة واحدة فما قبل شيئا من ذلك بوجه من الوجوه، يحدث عن نفسه أنه قال: حملت إلى بغداد وبيدي ورجلي السلاسل سلاسل الحديد فدخل علي شيخ كبير من أهل المحلة وهي مكان ببغداد، فقال: يا أحمد أنت اليوم في الناس رأس فاصبر على الحق فإنما الناس بك أي أتباع لك، فقال أحمد ما شاء الله، فعلم أن ذلك الشيخ هو تثبيت من عند الله أرسله ليثبته به، فثبت على ذلك، واستمر عليه حتى رفعت المحنة، وكذلك الحال بالنسبة لما حصل لعدد من السابقين عندما سيموا الخسف وأوذوا بأنواع الأذى لم يكونوا ليتراجعوا عن مبادئهم  ولا ليستسلموا بحال من الأحوال، فهذا حبيب بن زيد رضي الله عنه لما جاء إلى مسيلمة الكذاب، جعل يقول له: أتشهد أن محمدا رسول الله فيقول أشهد، فيقول: أتشهد أني رسول الله فيقول: أنا أصم، فيقطع منه عضوا ثم يعيد عليه السؤال، ثم يقطع منه عضوا آخر  حتى قطعه إربا إربا، وهو صامد على قوله لا يتأثر، وكذلك امرأة الأخدود التي كانت تحمل صبيا مرضعا في المهد، فلما وقفت على النار تذكرت حال هذا الصبي وأنها ستسقط به في تلك النار المروعة، فترددت قليلا فقال لها الصبي الذي في المهد: يا أماه نار الدنيا أهون من نار الآخرة، فانكبت به في تلك النار وقد أنزل الله في ذلك القرآن في سورة البروج، إن الذي يدرك هذا المقام تهون عليه الضغوط التي يواجهها ولا يمكن أن يغرى بأي مغر من المغريات، فرسول الله (ص) عندما عرض عليه أهل مكة أن يملكوه عليهم وأخبروا أبا طالب بذلك قال له: يا عم لو جعلوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك شيئا مما جاءني من عند ربي ما فعلت شيئا من ذلك، وهذا سعد بن أبي وقاص عندما أضربت أمه عن الطعام فامتنعت منه حتى كادت تموت ليرجع عن دينه، همس في أذنها فقال: يا أماه، لو كان لك مائة نفس فخرجت نفسا تلو أخرى على أن أرجع عن ديني ما رجعت فاحيي أو فموتي، إن أولئك القوم قد عرفوا أن ما عند الله سبحانه وتعالى هو الباقي الخالد، وأن ما سواه من الأمور المنقطعة التي لا يحرص عليها إلا الضعفاء، فهذا مصعب بن عمير لم يكن في مكة فتى أبلغ رفاه منه كان إذا مر من طريق عرفت رائحة الطيب في ذلك الطريق لمروره منه، وكانت أمه تشتري له في كل شهر حلة فلا يلبسها في غير ذلك الشهر، وكانت تنعمه بأنواع ما يحتاج إليه، فلما أسلم كلفت به رجالا أشداء وحبسته بين أربعة جدران فكانوا يضربونه صباح مساء ويؤذونه بأنواع الأذى، وقد حرم من كل شيء إنما هو في الحديد والقيود ليرجع عن الدين فما قبل، وعندما اختاره رسول الله (ص) سفيرا أول سفير في الإسلام إلى المدينة خرج وما عليه إلا بردة له وسيفه، واستمر الحال على ذلك ثلاث سنوات بعد الهجرة، قتل يوم أحد في العام الثالث من الهجرة وليس له إلا سيفه وبردة عليه، إن نحن غطينا بها رأسه بدت رجلاه، وإن نحن غطينا رجليه بدا رأسه، فأمرنا رسول الله (ص) أن نغطي رأسه وأن نجعل على رجليه من الإذخر، فلم يتعجل شيئا من أجره، لكنه عرف فلزم عرف الحق فلزمه، كذلك فإن الذين سلكوا هذا الطريق من المتأخرين أيضا تعرضوا لكثير من الأذى والضغوط ليرجعوا عما هم عليه، فلم يزدهم ذلك إلا ثباتا واستمرارا عليه وعزة بالله سبحانه وتعالى حتى في أحرج المواقف وأشدها، فهذا سيد بن قطب رحمه الله عند قتله أتاه رجل من علماء الأزهر يريد أن يلقنه الشهادة، قال له: قل لا إله إلا الله، قال: أنا أموت عليها، وأنت تحيى بها تتعيش بها، فهذا الذي يلقي عليه هذه الكلمة لا يعرف إلا لفظها، ويأخذ عليها جنيهات يتعيش بها، وهو يقتل في سبيلها، وكذلك عندما طلبوا منه وهو يقدم إلى المشنقة أن يكتب اعتذارا ولو سطرا واحدا ليعفى، قال: إن هذه الإصبع التي أرفعها في التشهد لله سبحانه وتعالى، لا يمكن أن أخالف بها ذلك، إن هذا الموقف يتردد كثيرا في هذه الأمة، وأن الذين ذاقوا طعم الإيمان وأدركوا أن الاتصال بالله سبحانه وتعالى به تحصل العزة لا يمكن أن يتأثروا بأي ضغط من الضغوط ولا أن ينساقوا وراء أي عدو من أعداء الله سبحانه وتعالى، وقد قال العلامة مولود بن أحمد الجواد رحمه الله: «أستودع الحافظ المستودع الوالي** ديني ونفسي وإخواني وأموالي** وأسأل المتعالي أن يوفقني** وأن يسدد أفعالي وأقوالي** أنا الضعيف فذاك الضعف يرحمه** ربي القوي فكان الضعف أقوى لي** ما ذل ما ذل من بالله عز وكم** ذل العزيز بأعمام وأخوال** وكم رأينا ذليلا بعد عزته** من عزه بالموالي أو بالاموال** متى تفز بموالاة الإله يدي** فعاد يا أيها المخلوق أو والي» إن موالاة الله سبحانه وتعالى تقتضي من الإنسان أن يعلم أنه لا نافع ولا ضار إلا هو وحده، وأن يسلك منهجه الذي ارتضى له، وأن يعلم أنه معه أينما كان، فالله سبحانه وتعالى قال لموسى وهارون: {إنني معكما أسمع وأرى}، وقد خاطب المؤمنين بقوله: {وهو معكم أينما كنتم}، وقال تعالى: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم}، إن الذي يريد معية الله سبحانه وتعالى ونصره وتمكينه لا بد أن يكون مع الله في كل أحواله، ولا بد أن يعلم أنه في حال جلوته مثله في حال خلوته، وأنه ينبغي أن يكون إقباله على الله في حال السراء مثل إقباله عليه في حال الضراء، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، فالذي يتعرف إلى الله في الرخاء هو الذي ينال مثل هذه المواقف ومثل هذا التشريف بالثبات العظيم في وقت الاحتكاك والمحن، أما الذي لا يعرف الله سبحانه وتعالى إلا في وقت الشدة فحاله حال المشركين الذين إذا مسهم الضر في البحر ضل من يدعونه إلا الله، وحينئذ يرفعون عقائرهم بالدعاء يدعون الله كحال فرعون عندما أدركه الغرق قال: {ءامنت أنه لا إله إلا الذي ءامنت به بنوا إسرائيل وأنا من المسلمين ءالْآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين}، فلا بد من التعرف إلى الله في الرخاء حتى ينال الإنسان ذلك التثبيت وذلك النصر في الشدة، لا بد أن يكون الإنسان مع الله سبحانه وتعالى في حال النعمة إذا أنعم عليه كان معه في حال النعمة فلم تغوه هذه النعمة ولم يطغ من أجلها، إن العبد الذي لا يعرف الله إلا في حال مرضه وفي حال ضعفه وفي حال مسكنته وفقره، يلجأ إلى الله فقط في تلك الأوقات لا يمكن أن ينال ذلك الفرج الذي يناله الموحدون الصادقون الذين عرفوا الله في الرخاء فتعرف إليهم في الشدة، إن على الإنسان منا أن يتذكر أن الله سبحانه وتعالى جعل على هذا الطريق عقبات كثيرة، وأنها أمامه تنتظره ما لم يصبه اليوم سيصيبه غدا، وبالتالي فهو يفكر في ثباته أمام هذه الصدمات، فإن رسول الله (ص) قال للمرأة التي وجدها تبكي عند قبر صبي لها: يا أمة الله اتقي الله واصبري، فقالت: إليك عني فإنك لم تصب بمثل مصيبتي، فقيل لها: ويلك إنه رسول الله، فجاءت تعتذر إليه وقالت يا رسول الله والله ما عرفتك، فقال: إنما الصبر عند الصدمة الأولى، فلا بد أن يستحضر الإنسان أن الصبر عند الصدمة الأولى، ولذلك قال علي رضي الله عنه عندما سئل عن الشجاعة؟ قيل ما الشجاعة؟ قال: صبر ساعة، أي أن يوطن الإنسان نفسه على الصبر في مواطن اللقاء، وأن يعلم أن تلك المصائب قد أصابت من هو خير منه، وأنها إن أصابته هو فلا ضرر، أليس نوح عليه السلام قد صبر على المصائب والمحن والأذى ألف سنة إلا خمسين عاما، أليس أكرم على الله منا نحن، أليس إبراهيم قد رمي به في النار، أليس محمد (ص) قد لقي من أنواع الأذى الشيء الكثير، فقد جعل عقبة بن أبي معيط السلى على ظهره بين كتفيه وهو ساجد لربه، وجاء هو وأبو جهل فجعلا حبلا في عنقه، وتجاذباه وهو يصلي، حتى جاء أبو بكر فضربهما بمنكبيه وهو يقول: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله، لقي من أنواع الأذى الشيء الكثير فلذلك لا بد أن نعرف نحن أننا سالكون لطريقه وأننا لا بد أن نلقى بعض ما لقي، فقد قال الله تعالى: {لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور}، فلذلك لا تتوقعوا أن أمور الدين ستبقى هكذا، يجلس الإنسان مستريحا في مسجد يسمع محاضرة مثلا ويكون بهذا من أنصار الله بهذا القدر فقط، بل لا بد أن تتذكروا قول الله تعالى: {فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم}، هذه شروط رب العزة، {ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار  ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب}، وقد قال تعالى: {الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين}، فلا بد أن يستشعر الإنسان أن أمامه كثير من المحن والبلايا في طريق الحق، وأنه مستعد للصبر والمصابرة على هذا الطريق كما قال الحكيم: «يمثل ذو اللب في لبه** مصائبه قبل أن تنزلا** فإن نزلت بغتة لم ترعه**لما كان في نفسه مثلا** وذو الجهل يامن أيامه** وينسى مصارع من قد خلا** فإن دهمته صروف الزمان** ببعض مصائبه أعولا» فلا بد أن يستحضر الإنسان طريق الذين سلكوا هذا الطريق قبله، وأنها ليست محفوفة بالورود بل هي مليئة بالأشواك، وهذا الصراط الدنيوي الذي نسير عليه هو تمثيل للصراط الأخروي الذي هو أرق من الشعر وأحد من السيف وعليه كلاليب كشوك السعدان يتفاوت الناس عليه بحسب أعمالهم، ومن كان أثبت على هذا الصراط الدنيوي كان أثبت على الصراط الأخروي، فلذلك علينا جميعا أن نحرص على تحسين علاقتنا بالله سبحانه وتعالى، والاتصال به والتوكل عليه والتعرف عليه في الرخاء، وأن نستحضر  أن أمامنا كثيرا من المحن على هذا الطريق، وأن نوطن أنفسنا على الصبر عند مجيء المصائب، وأن نعلم أنها ليست في أيدي المخلوقين وإنما هي في يد الله، فالمخلوق لا يستطيع أن يرفع ضررا ولا أن ينزله إنما ذلك كله بيد الله سبحانه وتعالى وأمره، إن هذه الحقائق التي نؤمن بها لا بد أن نجسدها واقعيا في أعمالنا، فلا يكفي أن تقول أنا مؤمن بالقدر خيره وشره مؤمن بأنه رفعت الأقلام وجفت الصحف حتى تأتي إلى نتيجة الإيمان بالقدر، فقد ذكر الله القدر في آية وذكر نتيجته في آية بعدها، فقال تعالى: {ما أصاب  من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير}، هذا القدر، ثم قال: {لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم}، هذه نتيجة الإيمان بالقدر وهي: {لكي لا تأسوا على ما فاتكم} والأسى الحزن، {ولا تفرحوا بما آتاكم}، فإذا حقق الإنسان هذه النتيجة فعلا كان مؤمنا بالقدر خيره وشره، أما إذا لم يحققها فسيكون مثل الذين يلهجون بقول لا يدركون حقيقته ولا معناه، كالذي يلقن كلاما فيعيده كالببغاء، إن علينا أن نعلم أن الذين نالوا هذه العزة بالاتصال بالله سبحانه وتعالى في المواقف العظيمة إنما كانوا أولياء الله في حال الرخاء، وكانوا من المطيعين لأوامره المجتنبين لنواهيه فالله سبحانه وتعالى حقق لهم الموعود لأنه علم من قلوبهم الصدق ولذلك فلا بد أن نصدق مع الله سبحانه وتعالى في شأننا كله، وأن نعلم أن العزة بدينه هي العزة الحقيقية فالأنساب والأحساب التي يتعزز بها الناس كلها منقطعة ولا معنى لها، فالناس لآدم وآدم من تراب، ومن كان يتعزز بنسب في هذه الحياة الدنيا فهي فانية قصيرة، وذلك النسب سينقطع بمجرد النفخ في الصور، {فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون}، إن التفاخر بأنساب الدنيا ووظائفها وأحسابها لا معنى له فهو منقطع زائل في أسرع الأوقات، ولذلك انظروا إلى الذين يدفنون في هذه الأرض فالقطع المتجاورة تجد فيها قبر الملك وقبر السوقة وقبر الغني وقبر الفقير وقبر العالم وقبر الجاهل، وهم سواء قبورهم جميعا سواء، قد انقطعت أخبارهم بمجرد مواراتهم في التراب، فنعلم أن القبر إما أن يكون روضة من رياض الجنة وإما أن يكون حفرة من حفر النار، ولا يمكن أن يعرف ذلك من خلال ظاهره أو ما نراه فوقه، فالقبر الذي توضع فوقه الفسيفساء وتوضع عليه الزخارف أو تغرس عليه الأشجار والقبر الذي ليس عليه علامة سواء، فليست العبرة بظاهر الأرض بل الإنسان في باطنها، وقد عرض عليه مصيره هنالك، {وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون}، إن الإنسان إذا أدرك هذا عرف أن ما يتعزز به الناس من شؤون هذه الدنيا ليس له أثر في العزة، وعرف أن العزة الحقيقية هي عندما يبيض الله وجهه حتى يسير في النور مسيرة خمسمائة عام، ويعطيه كتابه بيمينه تلقاء وجهه، ويُجَوِّزه على الصراط كالبرق الخاطف، ويحول بينه وبين أعدائه بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب، ثم بعد ذلك يدخله جنات النعيم، فهذا هو الفوز العظيم، وإذا ناله الإنسان فوالله لا يضره ما فاته من أمور الدنيا، من ابيض وجهه يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، وأخذ كتابه بيمينه فوالله لا يضره احتقار الناس له في الدنيا أو أنه عاش فقيرا أو عاش ضعيفا أو محتقرا في هذه الحياة الدنيا فلا يضره ذلك، وقد بينت لكم أن أعمار الإنسان خمسة، عمره الأول عمر الذر عندما مسح الله ظهر آدم فأخرج منه ذريته فقال: ألست بربكم قالوا: بلى، وهذا العمر طويل والتكليف فيه فقط بالتوحيد ألست بربكم، {ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم}، والعمر الثاني عمر  الإنسان فوق هذه الأرض وهو أقصر أعماره وهو عمر التكليف، والعمر الثالث عمره في البرزخ في بطن الأرض وهو طويل إذا ما قورن بعمره فوقها، والعمر الرابع عمره على الساهرة في المحشر، {وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون}، والعمر الخامس هو العمر الأبدي السرمدي في جنة أو في نار، فإذا كان الإنسان يعلم أن مدة مذلته وهوانه هي مدة هذا العمر الدنيوي القصير، وحتى كل ما فيه لا يدوم، حتى المذلة فيه لا تدوم، والنعيم فيه لا يدوم إذا أدرك الإنسان ذلك هان عليه هذا في مقابل ما يرجوه عند الله سبحانه وتعالى في الموقف عندما يجعل الله المقسطين على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، وكذلك عندما يدخلون الجنة فيتجلى لهم الباري سبحانه وتعالى من فوقهم فيقول: {سلام قولا من رب رحيم}، فلا بأس عليهم حينئذ ولو لقوا من أنواع الأذى ما لقوا في هذه الحياة الدنيا، إن علينا جميعا أن نتعزز بالانتماء لله سبحانه وتعالى والانتساب لدينه، وأن نتخلص من كل ما يلقيه الشيطان علينا من أنواع التعززات الباطلة، فالتعزز بالقبيلة من أمر الجاهلية، وقد كان أهل الجاهلية يتعززون بقبائلهم، فقال رسول الله (ص) : من تعزى عليكم بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا، وكانوا كذلك يتعززون بالأموال والأولاد، فقال سبحانه وتعالى: {ذرني ومن خلقت وحيدا وجعلت له مالا ممدودا وبنين شهودا ومهدت له تمهيدا ثم يطمع أن أزيد كلا إنه كان لآياتنا عنيدا سأرهقه صعودا}، وصعود جبل من جبال النار ويرهقه يحمل على ظهره يوم القيامة، نسأل الله السلامة والعافية، سأرهقه صعودا، فلذلك لا بد أن نتخلص نحن من أغلال الجاهلية كلها، فلا بد أن نعلم أن الفضل بين الناس إنما هو بتقوى الله، فمن يخاف الله عز  وجل ويخاف عقوبته ويتقي سخطه هو الذي يستحق العزة، ومن لا يخاف الله لا خير فيه فالبهائم خير منه فإنها على الأقل غير مكلفة فلا هي عاصية، ومن كانت البهيمة خيرا منه فلا شك أنه لا يمكن أن يتعزز، من كان حماره خيرا منه كيف يتعزز، إن علينا أن ندرك أن القيم الحقيقية هي ما بينه الله في كتابه فقد قال: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم} فمن كان أتقى لله فهو الأكرم الأرفع عند الله سبحانه وتعالى ولا نبالي بنسبه فسيفر الناس جميعا من آبائهم وأمهاتهم وأزواجهم وأولادهم يوم القيامة {يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه، يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه وصاحبته وأخيه وفصيلته التي تؤويه ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه}، فإذا عرف الإنسان ذلك هان عليه كل الأمور التي يتعزز بها الناس، في الحياة الدنيا، وكذلك إذا تذكر سرعة زوالها، فكم رأينا من عزيز في الدنيا قد أصبح مدفوعا بالأبواب، ألا تذكرون أن كثيرا من الرؤساء والملوك الذين كان لهم الأمر النافذ وكان الناس يرهبونهم في المكاتب هاهم اليوم يردون عن المكاتب التي كانت تابعة لهم وكانوا يعينون عليها من شاءوا ويصرفون عنها من شاءوا، وهاهم اليوم يدفعون عنها على الأبواب، ألا ترون أن الذين كانوا أغنياء، وبالأخص الذين كانوا يأخذون المال من غير حله قد منع كثير منهم من ذلك فلم يستفيدوا منه أي شيء بل عاش كثير منهم فقراء لا يملكون شيئا بعد أن كانوا أغنياء، إن من عرف ذلك أدرك  أن ما يتعزز به الناس من أمور الدنيا ليس شيء منه باقيا، وأن البقاء للباقيات الصالحات كما قال الله تعالى: {والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا}، {والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا}، والباقيات الصالحات هي الحسنات التي يتقبلها الله سبحانه وتعالى، فهي الباقية التي لا تذهب كذهاب أمور الدنيا وهي صالحة لأنها لا تمرض ولا تصاب بالمصائب، فهي موفورة كاملة عند الله سبحانه وتعالى، نسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يعزنا بدينه وأن يعز  دينه بنا، وأن يجعلنا في قرة عين نبيه محمد (ص)، وأن يلزمنا التمسك بسنته عند فساد أمته، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

 

السبت, 11 ديسمبر 2010 18:24
 

آخر تحديث للموقع:  الثلاثاء, 12 نوفمبر 2024 13:54 

اشترك في القناة

فقه الحج

موقع مركز تكوين العلماء

برامج تلفزيونية

إحصائيات

المتصفحون الآن: 49 

تابعونا علــــى:

تابِع @ShaikhDadow