من هموم الأمة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد فإن الله سبحانه وتعالى بنى هذه الدنيا على صراع أبدي بين الحق والباطل، هذا الصراع طرفاه حزب الله وحزب الشيطان، أما حزب الله فَقَادَتُه رسل الله المعصومون، وسراجه الوحي المبين المنزل من عند الله عز وجل، وأما حزب الشيطان فقائده إبليس عليه لعنة الله، وهذا الصراع هو مصلحة الأرض، فلو توقف لحظة واحدة لفسدت الأرض، ذلك أن الله جعل هذه الدار دار عمل ولا جزاء، وجعل بعدها الآخرة دار جزاء ولا عمل، وهذه الدار لو تمحض فيها الحق لم يكن لها معنى، لأن الناس يستحقون حينئذ دخول الجنة، ولو تمحض فيها الباطل فلم يكن للحق صوت لجاء سخط الله ومقته،

«إن ربي غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله» فلذلك سن الله فيها التدافع بين هذين الحزبين على أن يكون ذلك مصلحة للأرض واستمرارا للحياة الطبيعية عليها، قال الله تعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾ فمصلحة الأرض إذن وجود هذا الصراع الأبدي عليها، إن حزب الله منذ بعث محمد (ص) تمثله هذه الأمة المحمدية أتباع رسول الله (ص)، فإن كل ما كان يتشبث به  السابقون قد نسخ، وهذا الكتاب المنزل على محمد (ص) مهيمن على سائر الكتب مصدق لما بين يديه من الحق، ما أحكمه وأقره فهو المحكم من عند الله، وما غيره ونسخه فلا رجعة إليه، ولهذا قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ وقد صح عن النبي (ص) أنه قال: «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة لا يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بي إلا كبَّه الله على وجهه في النار» وقد أخذ الله العهد والميثاق على الأمم السابقة جميعا أن يتبعوا هذا الرسول إذا بعث، وأخذ إقرار الأنبياء على ذلك فقال: ﴿أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي﴾ والإصر هو أشد العهد، أشد ما أخذ أحد على أحد، ﴿قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ والفاسقون: الخارجون عن طاعة الله وحكمه، إن هذه الأمة قد شرفها الله بأنواع التشريف، فجعلها خير أمة أخرجت للناس، ولذلك قال في محكم التنزيل ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ وقد اختلف أهل التفسير في متعلَّق الجار والمجرور في قوله: للناس، فقالت طائفة منهم متعلقه \"كنتم\" أي كنتم للناس خير أمة أخرجت، فهذه الأمة هي التي ترعى مصالح الناس وهي الشهود عليهم يوم القيامة، وهي عدول الله في الأرض، وهي كذلك الشفعاء الذين لا يردون، وهي التي ترعى الذِّمام للأمم الأخرى، وهي التي تصَدِّقُ الرسل ولا تعدو فيهم حق الله، فلذلك اشترط النبي صلى الله عليه وسلم في الإيمان به أن يؤمن الإنسان بأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، فمن شهد بذلك بعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله فقد \"أوجب\" كما صح عن النبي (ص)، لذلك كانت هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس، فخيريتها للناس جميعا أي للبشرية كلها، وهذا الخيرية تظهر جليا يوم القيامة، عندما يخاصم الأنبياءَ جميعا أمَمُهُم، فما من رسول إلا ويقام في المحفل في المشهد الأعلى، فيقال: هل بلغت رسالات الله، فيقول: قد بلغت، فيقول أصحابه: ما جاءنا من بشير ولا نذير، فيقال: من يشهد لك فيقول: محمد وأمته، فيؤتى بهذه الأمة فتشهد للرسل على خصومهم، حتى نوح يخاصمه قومه فيقولون: ما جاءنا من بشير ولا نذير، فيقول: بلى، فيقال من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فيؤتى بمحمد (ص) وأمته فيشهدون أن قد لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما، وأنه دعاهم إلى الله عز وجل وأقام عليهم الحجة لله،أما القول الثاني لأهل التفسير في متعلق الجارِّ والمجرور في قوله: للناس أن المتعلق هو \"أخرجت\" أي كنتم خير أمة أخرجت، أي أخرجت هذه الأمة للناس، والمقصود بإخراج الأمة للناس أي بعثها بحضارتها ورسالتها ودينها، وهذا يقتضي أن هذا الدين الذي جاء به محمد (ص) هو خير دين للناس، فالأديان السابقة المنزلة من عند الله حق، ولكن شتان بين ثواب العمل بها، والعمل بما جاء به النبي (ص)، ولهذا أخرج البخاري في الصحيح أن النبي (ص) قال: «إنما مثلكم ومثل من قبلكم، مثل رجل قال: من يعمل لي من أول النهار إلى منتصفه أو إلى صلاة الظهر بقيراط فعملت اليهود، ثم قال من يعمل لي من الظهر إلى العصر بقيراط فعملت النصارى، ثم قال من يعمل لي من صلاة العصر إلى غروب الشمس بقيراطين فكانت هذه الأمة أهل ذلك، فأنكر اليهود والنصارى، فقال: هل ظلمتكم من حقكم شيئا، فقالوا: لا» فهذه الأمة حقها مضاعف وأجرها مضاعف، فلذلك دينها خير الأديان، فصلاة الرجل من هذه الأمة أجرها أجر أضعافها من صلوات السابقين، وجلسة الرجل في المسجد من هذه الأمة ما بين صلاتي العصر والمغرب أو ما بين صلاتي الظهر والعصر أجرها أجر سنوات من عمل الرهبان المنقطعين للعبادة في الأمم السابقة، كل هذا من تشريف الله لهذه الأمة، وكذلك فإن من تشريفها وخيريتها أن الله سبحانه وتعالى أنزل إليها أفضل الكتب وشرع لها خير شرائع الدين، وأرسل إليها أفضل الرسل وجعل معجزتها باقية خالدة، وكتب لها ستة أمور لم تكن في الأمم السابقة، فالأمم السابقة لا يمكن أن يصلي أحد منهم إلا في المكان المخصص للصلاة، وهذه الأمة جعلت لها الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل، كذلك فإنها أبيحت لها الغنائم، ولم تبح لأحد فيما مضى، وكذلك فإنها نصرت بالرعب مسيرة شهر، نصر بذلك رسول الله (ص) كما أخبر، وقد أخبر في حديث آخر أن ذلك بقي لأمته فهي منصورة بالرعب، كذلك أن الله سبحانه وتعالى لم يكن ليسلط عليها من يجتث بيضتها، فلا بد أن يبقى منها القائمون على الحق الذين لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، وكذلك فإنها رفع عنها الإصر، وأحل لها كثير مما حرم على الأمم السابقة، ولهذا قال الله تعالى خطابا لأهل الكتاب: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ إن هذه الأمة كذلك مما خصها الله به أن جعل علماءها بمثابة أنبياء بني إسرائيل، فإن بني إسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء، وهذه الأمة لا تخلو من عالم يقوم لله بالحجة، فقادتها هم علماؤها الذين يحفظون الوحي المنزل على رسول الله (ص)، وهم أمناء الله على هذا الوحي، ولم يكن الله ليجعل وحيه بدار هوان، فإن الله يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة، ولم يكن ليأتمن المفلَّسِين، فمن كان مفلسا غير أمين خائنا لم يكن الله ليأتمنه على وحيه، بل الله سبحانه وتعالى له الاختيار وله الملك لا معقب لحكمه، فلذلك يختار لحفظ وحيه الأمناء الذين هم أمناء الله على وحيه وهم الموقعون عن رب العالمين، كذلك من خصائصها التي ميزها الله بها أن يُخرج لها على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها وهذا ما تحتاج إليه الأمة في كل الأحيان، فكلما مضى طور من الأطوار وطبق من الأطباق جاء من يجدد أمر الدين، وهم عصبة متعاونة على البر والتقوى، فيهم العلماء العاملون، وفيهم المجاهدون الصادقون المضحون، وفيهم الساسة المتقنون، وفيهم الاقتصاديون المحنكون، وفيهم القائمون بالأمر الذين لا يخافون في الله لومة لائم، وفيهم الجنود المحقون، وفيهم النساء المحافظات على ما شرع الله، وفيهم الشباب الذين يؤثرون الآخرة على الأولى، فهؤلاء يجددون أمر الدين كلما مضى طبق جاء طبق جديد خرج فيه من هؤلاء من يجدد لهذه الأمة أمر دينها، لكن مع هذا كله ومع هذا التشريف العظيم لم يكن الله ليترك المؤمنين على ما هم عليه إلا بعد امتحانات شاقة،وهذه سُنة الله الماضية ليست ظلما ولا نقضا لسُنة كونية، بل ما مضى أحد من الأنبياء ولا من خَلَفَهم من الصالحين، إلا وقد امتحن امتحانا شاقا على هذا المنهج الصحيح، ولهذا قال  الله تعالى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) وقد صح عن رسول الله (ص) أنه قال: أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل الأمثل، وهذا إبراهيم خليل الله الذي شرفه الله على كل من سبقه من الناس، وشرفه كذلك على من عداه ما عدى محمد (ص)، ﴿وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا﴾ مع هذا ابتلاه الله وامتحنه بأنواع البلايا والمحن، وعندما بلغ معه ولده المشي أُمِر بذبحه، وامتحن كذلك بالأوامر الشاقة بأن يترك جاريته وولده بواد غير ذي زرع، ليس فيه ماء ولا مرعى، وإنما هو وحوش كاسرة، لكن أتم إبراهيم هذا الامتحان ونجح بالإمتياز، فشهد له الله بذلك، فقال: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ﴾ نجح في كل الامتحان مائة بالمائة، فكانت الجائزة قول الله تعالى: ﴿قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾ فالناس جميعا يلزم أن يقتدوا بإبراهيم، فلا يخالفه إلا من سفه نفسه، ولا يرغب عن ملة إبراهيم إلا من كان سفيها سفه نفسه، فقد أمر الله محمدا (ص) باتباع ملة إبراهيم، وأمركم معاشر المؤمنين باتباع ملة إبراهيم، وبين هذه الملة التي ينبغي أن تُتبع وهي إخلاص العبودية لله وحده، والولاء الكامل لله والبراء الكامل من أعداء الله، هذه ملة إبراهيم التي أمرتم باتباعها،  ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ﴾ وَحْدَهُ فكل ما فعله إبراهيم من ذلك أو قاله فهو إسوة للمؤمنين لا بد أن يأتسوا به ويقتدوا به، إلا أمرا واحدا وهو استغفاره لأبيه، فإن هذا الأمر وحده استثناه الله من الاقتداء بإبراهيم، فقال: ﴿إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ﴾ أما ما عدا ذلك من هدي إبراهيم فقد ارتضاه الله لناجميعا وأمرنا بالاقتداء به، إن ابتلاء الله لهذه الأمة عظيم جدا، ويتكرر فيه نظير ما سبق للأمم السابقة، وقد قص الله علينا كثيرا من ابتلاءات الأمم السابقة ليكون ذلك تثبيتا لنا وإعدادا لنا حتى لا يفجأنا الأمر فيتساقط المتساقطون، بين الله سبحانه وتعالى بعض امتحاناته لبني إسرائيل، فقال في محكم التنزيل: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ فأول امتحان وُجه إلى هؤلاء بعد أن ثار حماسهم وقالوا ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله، أول امتحان وجه إليهم ﴿قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا﴾ وهذا الامتحان فشلوا فيه جميعا، ولم ينجح فيه أي أحد، ﴿قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا﴾ فليس القتال إذن في سبيل الله بل هو من أجل الديار والأبناء، ﴿ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا﴾بعد هذا الامتحان النظري جاء الامتحان التطبيقي وهو أداء الجهاد في سبيل الله، ﴿فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ﴾ فالامتحان التطبيقي دائما أسهل من الامتحان النظري، الامتحان النظري يرسب في الممتحنون كلهم والامتحان التطبيقي ينجح فيه قليل منهم كما سيتكرر عليكم في هذه الآيات، الامتحان الأول النظري لم ينجح فيه أحد،الامتحان الثاني كان تطبيقيا ﴿فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ﴾ نجحت منهم طائفة قليلة، ثم بعد هذا جاء امتحان نظري آخر وهو تقديم من لا يرونه يستحق التقديم عليهم، وهذا الامتحان شاق على النفوس، فإن كثيرا من النفوس مبنية على الحسد، ورؤية الفضل على الغير، والإعجاب بالنفس، فلذلك قال لهم نبيهم: ﴿إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ﴾ وهذا امتحان من عند الله، فرسبوا جميعا في هذا الامتحان، ﴿قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ ثبتهم الله سبحانه وتعالى بأمر خارق للعادة هو نزول الملائكة يحملون تابوتا من السماء فيه السكينة وفيه بقايا مما ترك آل موسى وآل هارون، وذلك من فضل الله سبحانه وتعالى لأنهم حين رسبوا في هذا الامتحان الشاق يصعب أن يخرج منهم بعد هذا طائفة تجاهد في سبيل الله، فلما جاءتهم الآيات البينات ونزل الملائكة يحملون التابوت من السماء  فيه سكينة من الله وثبات على الحق، وفيه بقية مما ترك آل موسى وآل هارون اقتضى ذلك نجاحا وارتفاعا للمعنويات وثباتا على الحق، ثم بعده جاء امتحان تطبيقي آخر وهو قوله: ﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ﴾ الجنود جمع قلة أي أن الذين بقوا مع طالوت عدد قليل لأنه سبق رسوبهم في الامتحانات السابقة، ومع هذا فأولئك أيضا لم يبق منهم إلا القليل، شربوا جميعا من النهر إلا قليلا منهم، ثم بعد هذا جاء امتحان آخر وهو شاق جدا وهو تذكر المواجهة، عندما يتذكر هؤلاء المجاهدون قوة عدوهم، ويرون أنهم أضعاف مضاعفة، وأن بأيديهم القوة المادية، وأن خيرات الأرض مسخرة في مقابلهم فهذا لا شك امتحان شاق، ولذلك قال: ﴿فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ﴾ وهم قليل من قليل من قليل، ﴿قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾ هذا امتحان نظري رسبوا فيه جميعا، بعد هذا ثبت الله طائفة قليلة بالحق وهم الذين يظنون أنهم ملاقوا الله، أي يوقنون أنهم ملاقوا الله، أنهم لو عاشوا ما عاشوا فإن مصيرهم إلى الله، ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ﴾ وأن الموتة التي كتبها الله واحدة: «ومن لم يمت بالسيف مات بغيره** تعددت الأسباب والموت واحد» وهذه الموتة لا يمكن أن يرفعها الهرب والجبن، ولا يمكن أن يعجلها الإقدام والشجاعة، ولذلك قال ابن محمدي رحمه الله: «فلا الإحجام يجلب ما كُفِينَا** ولا الإقدام يمنع ما نلاقي» فما كتبه الله سبحانه وتعالى لا بد أن يقع، فلذلك قال: ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ وهؤلاء هم الذين استطاعوا الثبات لأنهم أصلوا أصلا عقديا ينطلقون منه فكانت عقيدتهم دافعا لهم إلى التقدم لأنهم يظنون أنهم ملاقوا الله شهد لهم الله تعالى بصدق العقيدة وصلاحها، فلذلك هم الذين صبروا على المواجهة، ومع ذلك صرحوا بمقتضى دافعهم العقدي فقالوا ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ ولم يعتقدوا ذلك في نفوسهم فقط بل صرحوا به ليزيدهم ذلك ثباتا ويقينا، ولهذا نحتاج نحن إلى مدارسة مثل هذا الموضوع الذي بين أيدينا، وهو هموم هذه الأمة، نحتاج إلى مدارستها كما قال أولئك: ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا ﴾ لم يتكلوا على القوة المادية، وإنما رفعوا أيديهم إلى الله، ﴿قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ لم يقل هزموهم بقواهم، ولا بشجاعتهم ولا بآلياتهم وإنما قال: ﴿فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ فهذه سنة الله الماضية، ولذلك عقبها الله بقوله: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾ إن هذه السنة تتكرر دائما، فيمتحن الله الناس، لأن هذا الإيمان ليس قولا يقال، ولا دعوى تدعى، بل لا بد أن يصدقه العمل، إن الذين آمنوا مع رسول الله (ص) في مكة لقوا عناء مبينا إذا تذكرتموه اليوم فاضت عيونكم بالدموع، ونشأ لديكم من الإشفاق والرحمة الشيء الكثير، عندما يتذكر أحدكم حال المحبوسين في الشعب الذين حوصروا ثلاث سنوات، منعوا من البيع والشراء والنكاح، لا يتصدق عليهم أحد بأية صدقة،وليس لديهم زرع ولا سقاية، ولا تجارة ولا أي مورد من موارد الحياة، يقص علينا كثير منهم بعض ما عانوا، فيقول سعد بن أبي وقاص «خرجت ذات ليلة في الشعب لحاجتي، فوقعت يدي على شيء فنفضته فإذا هو جُبَّة فاقتسمتها نصفين بيني وبين عتبة بن غزوان فائتزرت بنصفها وائتزر عتبة بن غزوان بنصفها» ويقول أيضا «خرجت ونحن في الشعب لأقضي حاجتي فوقعت يدي على شيء فأزلت عنه التراب فإذا هو جلد فأتيت به فشويته فأكلته أنا وإخواني» ويقول عتبة بن غزوان «لقد رأيتنا في الشعب مع النبي (ص)، وما منا أحد إلا وهو يعصب الحجر على بطنه من الجوع، ثم والله الذي لا إله غيره لقد رأيت أولئك النفر وما منهم أحد إلا وهو وال على مصر من الأمصار» إن الله سبحانه وتعالى قادر على أن ينصر رسوله (ص) دون هذا الحصار، ولكن حكمته وسنته الماضية هي التي جعلت المشركين يحاصرون المؤمنين في الشعب حتى يتكون المؤمنون تكوينا تحتاج إليه هذه الأمة، فأولئك الرجال الذين حوصروا في الشعب لم تكن الدنيا بعد هذا تساوي عندهم أي شيء، ولهذا يقول سعد بن أبي وقاص، كما في صحيح البخاري، «والله إني لأول العرب رمى بسهم في سبيل الله، ولقد رأيتنا نغزو مع النبي (ص) وما لنا زاد إلا ورق السَّمُرِ وهذه الحُبْلَة، وإن أحدنا ليضع كما تضع الشاة ما له خلط، ثم أصبحت بنو أسد تعزرني على الإسلام خِبت إذن وضل سعيي، إن أحدكم إذا فكر في ذلك الحصار وتألم في باطنه لما لقيه رسول الله (ص) وأصحابه من كيد المشركين ينبغي أن يتذكر أيضا أن هذا من كيد الله ورحمته بهذه الأمة، وأنه لولا هذا الحصار لما تكون أولئك الرجال الذين استطاعوا حمل لواء الإسلام إلى كل مكان، إن العهد المكي الذي دام ثلاثة عشر سنة هو الذي تكون فيه رجال هذه الأمة وتربوا فيه تربية كاملة، أتت هذه التربية بثلاثة عشر قرنا من عمر هذه الدولة الإسلامية، فالعهد المكي كان ثلاثة عشر سنة كل سنة جاءت بقرن كامل، من عمر هذه الأمة، والأمة الآن محتاجة إلى العهد المكي من جديد، فلذلك تكالبت عليها الأمم بسنة الله سبحانه وتعالى، تنقية وتمحيصا، وليتخذ منكم شهداء، ثم بعد ذلك تبقى البقية الباقية منكم منصورة لا يضرها من خالفها ولا من خذلها وهي التي يفتح الله على يديها، ولا بد أن يكون هذا التمحيص شاملا للأمة ولا بد أن يقع، فهو السنة الماضية، لم تقتصر امتحانات هذه الأمة في الصدر الأول على ما لقيه رسول الله (ص) وأصحابه في العهد المكي، بل استمرت حتى في العهد المدني، وقد بين النبي (ص) لهم ما سيقع في هذه الأمة من البلايا والرزايا والمحن، ولذلك في صحيح البخاري من حديث خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: «أتيت النبي (ص) وهو متوسد برده في ظل الكعبة، فقلت يا رسول الله ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا ألا ترى إلى ما نحن فيه، فقال: إنه كان فيمن قبلكم يؤتى بالرجل فيوضع المنشار على مفرقه فيفرق به فرقتين، ثم يؤتى بأمشاط الحديد فيمشط بها ما دون عظمه من جلد ولحم، لا يصده ذلك عن دينه، ووالذي نفس محمد بيده ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون» فلم يكن هذا ليقع في تلك الأوقات التي هي أوقات التربية والتكوين، إنها سنن الله الماضية، فلا يمكن أن يكون من هو في مستوى الابتدائية معدا لرسالة الدكتوراه، ولا يمكن أن يكون من هو في مستوى المتوسط صالحا لمستوى الجامعة، وهكذا، فهذه سنة الله في التربية، لذلك فإن المؤمنين بعد أن هاجروا إلى المدينة شهدوا أيضا أنواعا شتى من هذه البلايا والهموم، من أبلغها الامتحان الذي حصل يوم أحد عندما خرج رسول الله (ص) بعد أن استكرهه الناس للخروج ولم يكن يراه، فقد كان يرى أن يقاتل المشركين من الحصون، فمن جاء منهم قتل، فيرجعون على أدبارهم مهزومين دون أن يقع المسلمون في التعرض للأخطار، ولكن الشباب أهل الحماس ألجؤوه إلى أن يلبس لاَمة الحرب وأن يستعد للجهاد، فلما دخل يغتسل ليلبس لاَمَتَهُ لبسها وخرج، «فقالوا: له كأننا استكرهناك يا رسول الله، فقال: أجل، فقالوا: نحن تائبون إلى الله فافعل ما رأيته، فقال: ما كان لنبي إذا لبس لامة الحرب أن يخلعها حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه» خرج رسول الله (ص) ونادى مناديه في الناس في ذلك الوقت ازداد كلَب المنافقين في المدينة، حتى إن رجلا منهم أعمى البصر أعمى البصيرة، جعل يحثو التراب على الجيش ويقول لرسول الله (ص): لو علمت أن التراب يصل إلى وجهك لصرفته إليك، هؤلاء المنافقون إذا جاء وقت الخوف اشتدت شوكتهم على المسلمين، وإذا ذهب الخوف ذابوا كأن لم يكونوا ولم يكن لهم أي أثر، فلذلك تألب المنافقون وخرجت طائفة منهم مع رسول الله (ص) ليُخَذَّلُوا من استطاعوا من الجيش، فلما فصل رسول الله (ص) عن البيوت وخرج من ديار بني أمية بن الحارث من الخزرج، أقام معسكره دون أحد، فرفع راية المهاجرين والأنصار فاجتمع تحتها سبعمائة من الذين يظنون أنهم ملاقو الله، من الصادقين، ورفع عبد الله بن أبي بن سلول راية النفاق فاجتمع تحتها مثل ذلك من المنافقين، فخرج راجعا بنصف الجيش عن رسول الله (ص)، بعد أن رأى المشركين قد أقبلوا في كبريائهم وعداوتهم للإسلام، فتقدم إليهم عبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر بن عبد الله، فوقف عليهم فقال: أي قوم لا تخذلوا رسول الله (ص) في هذا الموقف وقد رأيتم الصف، فقالوا: لو كنا نعلم قتالا لاتبعناكم فرجعوا إلى ديارهم ففضحهم الله عز وجل، لم يكن الامتحان هنا برجوع نصف الجيش فقط، بل كان الامتحان أشق من ذلك حين دبت الهزيمة في النفوس فانهزم الناس عن رسول الله (ص) ولم يثبت معه إلا عشرة رجال وامرأة واحدة، وهو واقف في وجه العدو يقول: إلي إلي يقاتل في سبيل ربه، كان هذا الامتحان شاقا جدا ومع ذلك جاءت بعده المغفرة، ولهذا قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ﴾ جاء بعده امتحان آخر شاق أيضا ألا وهو امتحان الأحزاب، عندما جاء الحمس بكل ما يملكونه من وسائل القوة، وجاءت معهم قبائل غطفان العشرة، وجاءت معهم القيسية، وجاء معهم الأعراب الذين كانوا حول المدينة يريدون النهبى والغنيمة، وجاء معهم بنو النضير ونقض بنو قريظة العهد، فحصل الحال الذي بينه الله تعالى في وقت الشدة بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآَتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18)﴾ إن هذا الحال الذي حصل تباينت فيه مواقف الناس إلى أربعة مواقف، الموقف الأول هو الموقف المشرف الذي سطره الله شهادة في محكم تنزيله للمهاجرين والأنصار، للصادقين من هذه الأمة، للإسوة الصالحة الذين ينبغي أن يقتدي بهم خلف الأمة، ﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ إن هذا الموقف المشرف هو الذي اقتضى من هؤلاء  الإيمان والتسليم، الإيمان بالقدر النافذ والتسليم للشرع كذلك، فهم الذين جمعوا بين القدر والشرع، ففي القدر آمنوا بما قدره الله وعرفوا أن ما كتبه الله لا بد أن يقع لا تغني منه الأسباب أي شيء، رفعت الأقلام وجفت الصحف، ومع ذلك في الشرع أعملوا الأسباب التي يطيقونها لعلمهم أنهم مكلفون بأدائها، فلا يمكن أن يعتمدوا فقط على سابق القدر، ولا أن يتكلوا على ما كتب، بل لا بد أن يعملوا الشرع وأن يجاهدوا وأن يبذلوا ما يستطيعون، فلذلك كان نسيبة تقاتل بسيفين، ورمى طلحة بن عبيد الله يوم أحد حتى شلت يده، وكان سعد بن أبي وقاص يرمي بين يدي النبي (ص) ورسول الله (ص) يقول له: «إرم فداك أبي وأمي» وما جمع أبويه في فداء لأحد سواه، إن هذا الموقف المشرف العظيم الذي وقفه هؤلاء يتكرر كلما جاءت غزوة الأحزاب مرة أخرى، كلما جاء هذا الامتحان نجد الذين يزدادون إيمانا بقدر الله ويزدادون تسليما لشرع الله فهم مؤمنون بأن ما كتبه الله لا بد أن يقع، وهم مستسلمون لحكم الله لا بد أن ينقادوا وأن يمتثلوا ما أمر به الله ورسوله (ص) الموقف الثاني موقف صرحاء المنافقين الذين كانوا ينتظرون وقتهم، فجاء هذا الوقت في وقت الاستضعاف فصرحوا بما يكنونه، ﴿وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا﴾ يقولون يعدكم محمد أنه ستفتح عليكم كنوز كسرى وقيصر، وها أنتم اليوم لا يستطيع أحد منكم أن يخرج لحاجته، بلى فتحت كنوز كسرى وقيصر وأنفقت في سبيل الله ونحن على ذلك من الشاهدين وصدق الله ورسوله وكذب العادلون بالله، إن هذا الموقف الصريح يتكرر أيضا كما سنرى، ثم الموقف الثالث موقف أهل المحاباة من المنافقين ومرضى القلوب الذين يحاولون التخذيل، لا يستطيعون التصريح بما يجدونه في أنفسهم من الانهزام، ولكنهم يخَذلون الناس عن نصرة الله ورسوله، ﴿وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا﴾، ولا فرق بين القراءتين لا مُقام لكم أي لا استقرار لكم هنا، يريدون منهم الهزيمة، ولا مَقام لكم أي لا غنى بكم، ولا فائدة من وقوفكم ومجيئكم، فارجعوا أي انهزموا، فهؤلاء هم المعوقون المخذلون، الذين يقولون للناس ماذا تصنعون؟ ومن تقاتلون؟ ماذا تريدون؟ إن أعداءكم لا يمكن أن يقف في وجههم أي أحد، وهؤلاء المخذلون كذلك يتكرر موقفهم كما سترون كلما جاءت غزوة الأحزاب، الموقف الرابع هو موقف ضعفة العقول والتدبير من المؤمنين الذين انكفأوا على مصالحهم الخاصة وتركوا أمر العامة، وقالوا تعالوا بنا نصلح مزارعنا وأسوار بيوتنا، وهؤلاء هم الذين سطر الله موقفهم بقوله: ﴿وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ﴾ عورة أي ليست داخل السور، ﴿وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا﴾ فقد سمى الله عز وجل الرجوع إلى المصالح الخاصة فرارا من الزحف، وتراجعا عن نصرة الله ورسوله، وقد بين الله عز وجل أن هؤلاء ما تمسكوا إلا بأضعف شعرة وأقلها، ولذلك قال: ﴿وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ﴾ أي بيوتهم ﴿مِنْ أَقْطَارِهَا﴾ أي من أطرافها ﴿ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآَتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا﴾ أي أعطوها من سألهم، وفي القراءة الأخرى لأتوها أي لوقعوا فيها نسأل الله السلامة والعافية، والفتنة هي الردة عن الإسلام، فهؤلاء الذين انكفؤوا على مصالحهم الخاصة لو عرفوا أنهم لم يكونوا ليأمنوا على أموالهم وبيوتهم وأهليهم إلا إذا أعلنوا الردة عن الإسلام لفعلوا، وهذا ما نشاهده أيضا كلما تكررت غزوة الأحزاب، إننا اليوم نشاهد غزوة جديدة هي غزوة الأحزاب، وهي هم واحد من هموم هذه الأمة، لكنه الهم البارز الذي يفكر فيه كثير منكم عندما سمع هذا العنوان، هموم الأمة، لا شك أن كثيرا منكم يفكر في همين: «للناس هم ولي ذا اليوم همان** فقد الكُنَيْفِ وفقد الشيخ عثمان» كما قال أبو هريرة رضي الله عنه، تفكرون في همين هَمٍّ في فلسطين وهم في أفغانستان، لكن الواقع أن هموم الأمة أكثر وأكبر من ذلك، وهذان الهمان لا يمكن أن نزهد فيهما ولا أن نقلل من شأنهما، لكن سنطبق عليهما ما عودنا الله في غزوة الأحزاب، وسترون النتائج إن شاء الله أولا: تكالب المنافقين والمشركين والأحزاب على هذه الأمة ليس أمرا جديدا، بل هو المعهود ولو لم يفعلوا لاعتبروا خائنين، لو لم تشتد عداوة اليهود للمسلمين لكان اليهود قد خانوا مبادئهم وتراجعوا عن شأنهم، ولو لم تغز أمريكا المسلمين في عقر دارهم لكانت أمريكا قد أعلنت الإفلاس والتراجع إذ ليس لهم أي مبدإ يمكن أن ينطلقوا منه في حياتهم إلا عداوة هذا الدين والكيد لأهله، إن هذا المبدأ هو الذي يخفى على كثير من الناس، فكثير من الناس إذا حصلت نكاية بأعداء الله أيا كانت تلك النكاية قالوا هذا تعرض للأبرياء، ما معنى الأبرياء؟ الأبرياء كما تعلمون جميعا هم غير المجرمين أليس كذلك؟ هذا التعريف المبدئي للأبرياء غير المجرمين، هل تعرفون جرما أكبر من الشرك بالله وتكذيب رسله، كيف يوصف من كفر بالله وكذب رسل الله عليهم الصلاة والسلام بأنه بريء، ما أجرم أحد جرما أعظم من هذا الجرم، فلذلك لا يمكن أن يوصف من كفر بالله وكذب رسله بأنه بريء أبدا، بالأخص إذا عرفنا أن هؤلاء الكفرة إنما ينتهبون خيرات المسلمين ويغيِّرون دينهم ويغيرون عليه في كل أوقاتهم، فحربهم الدائمة على هذا الدين ليست مختصة بالجانب العسكري كما يتوهمه من ليس مدركا لأحوال الناس، إن الحرب في المجال العقدي وفي المجال الفكري وفي مجال الأخلاق والقيم وفي مجال العلم وفي المجال الاقتصادي حرب قائمة طويلة الأمد، لقد صرح أمامنا أحد صناع السياسة الأمريكية في مؤتمر إسلامي دولي، في الرياض، صرح أمام الجمهور وبحضرته عدد من الوزراء والأمراء والدكاترة وأساتذة الجامعات صرح على منبر إسلامي بأنهم ينتهبون فقط 85% من خيرات أرضنا ويتصدقون علينا بخمسة عشر بالمائة، شهد شاهد من أهلهم بذلك، 85% من خيرات بلادنا ينهبونها، ويتصدقون علينا ويريدون منا الشكر على 15% من خيرات بلادنا التي آتانا الله، ثم بعد هذا لا شك أنهم يقيمون الحرب بكل ما يملكون من الوسائل على أصل اعتقادنا، فالتشكيك الذي يشك فيه شباب المسلمين في بلاد الإسلام وما يحصل عندما تأتي الأزمات من إظهار النفاق والتراجع عن دين الله وترك الالتزام به كله من كيد هؤلاء وآثار عملهم، وغزواتهم الدائمة المستمرة التي تسعى لتنصير الناس وتسعى كذلك لإفساد أخلاقهم، وتسعى لبث أنواع الرذيلة فيهم كل هذه الغزوات مستمرة لا ينكرها إلا غافل أو متغافل، إن الحرب القائمة اليوم على الإسلام سواء كان ذلك في فلسطين أو في أفغانستان أو في الشيشان، أو في غير هذه الأماكن من البلاد نظيرها حرب أخرى لا يشعر بها كثير من الناس، لا ينجو منها بيت حجر ولا بيت مدر في العالم كله، تغزوكم هنا في عقر داركم، هذه الحرب فتشوا عنها تجدونها في صدوركم، فما منكم أحد إلا وقد غزي في صدره في قناعاته، حتى أصبح ينكر عقله ويقتنع بأمر لا يقره العقل، إن كثيرا منكم يصدق الدعاوي التي ينشرها الإعلام الغربي ويقتنع بها ويراها مسلمات لا تقبل المجادلة والنقاش، ولو أراد أحد منكم أن يقنع أمه أو خالته بكذب ما أعلنته إذاعة لندن أو مونتي كارلو فإنها لا يمكن أن تصدقه، لماذا ؟ لأن الغزو قد دخل إلى سويداء القلوب، فهم قد غزوكم هذا الغزو العلمي المثبت في المدارس والمناهج وهذا الغزو الإعلامي الذي لا يخلو منه بيت، ولذلك تسمعون الأمور التي يستنكرها أقل الناس عقلا لو سألتم أقل الناس عقلا هل يمكن أن تكون طائفة يسيرة من الأسرى مغلولي الأيدي والأرجل في قلعة حصينة ويحيط بهم الجنود من كل جانب، فيثورون من قلعتهم ويقاتلون أربعة أيام يقاتلون الطائرات والدبابات والصواريخ وأنواع الأسلحة الفتاكة مدة أربعة أيام ثم تنتصر طائفة منهم وتنجو فإن هذا لا يمكن أن يصدقه أحد، ومع ذلك كل الناس يصدقونه لأنه جاء في الإذاعات الغربية، إنما سمعتموه من قضية قندوز وأنها كان يحاصر فيها حوالي عشرين ألفا من الأفغان ومن معهم من الأفغان العرب وغيرهم، وأنهم أخذوا أسرى ووضعوا في القلعة، وأنهم أخذوا السلاح من حراسهم وأنهم قاتلوا مدة ثلاثة أيام وهربت منهم طائفة وأنهم قتلوا عددا كبيرا من الضباط الأمريكان والإنجليز أصبح اليوم من الثوابت والمسلمات لدى كثير من الناس أنه مسرحية كما هي على وفق ما حاكها الغربيون، وعلى وفق ما أخرجوها ونسجوها، والواقع أن هذا لا يصدقه عاقل، الأسرى المغلولون في أيديهم وأرجلهم والذين هم في قلعة حصينة فوق قمة جبل ويحرسهم الحراس من خارج القلعة، كيف يقاتلون مدة أربعة أيام ثم تنتصر طائفة منهم وتنجو، هذا لا يمكن أن يصدق، لكن نظرا لأنه لا يوجد إعلام إسلامي، ولا يمكن أن تصل إليكم الأخبار كما هي، أصبحتم تتشبثون بما يقال، فتصدقون أمرا تتلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم، إن التلقي بالألسنة أمر خطير، فالتلقي آلته الأذن لا اللسان، وإنما يتلقى الإنسان بلسانه إذا قال القول دون أن يفكر فيه، فقضية الإفك تلقاها الناس بألسنتهم دون أن تمر على آذانهم ودون أن تصل إلى قلوبهم، إذ لو مرت بالآذان لنقلتها بكل أمانة إلى القلوب ثم فكروا فيها فعلموا بطلانها، لكنهم تلقوه بألسنتهم مباشرة، فتحدثوا به دون أن يمر بآذانهم ودون أن يفكروا فيه، وكذلك الحال اليوم في كل مسألة من هذا النوع من الإفك والبهتان تنشره وسائل الإعلام الغربية، يتشبث الناس به فيتلقونه بألسنتهم فيسمعه الناس ويصدقونه دون أن يفكروا فيه، لا يهمنا أمر هذه الحادثة كثيرا، لكن نظرا لأننا ذكرنا بطلان الدعوى الغربية فيه لا بد من الإلمام بشيء من الحقيقة فيها، إن مدينة قندز فعلا قد كان فيها عدد كبير من الأفغان ومن معهم من العرب والباكستانيين وغيرهم، وقد حوصروا من طريقين تؤديان إلى المدينة، والذين حاصروهم هم من قوات التحالف الشمالي، وعندما اشتد عليهم الحصار كانوا من قبل يريدون الخروج من المدينة وتسليمها لبعض القبائل، وقصفتهم الطائرات الأمريكية بكل أنواع القصف كما هو معهود، لكنهم يوم قرروا الانسحاب طلبوا الذين يريدون الإفطار في الجنة، وهذه عادتهم أن يسألوا الحاضرين من يريد منكم أن يفطر اليوم في الجنة؟ فاستعدت مجموعة من الشباب لا تتجاوز ثلاثمائة وسبعين رجلا، فقالوا: نحن نحمي الظهور وانطلقوا على بركة الله فانسحبوا، ولم تقع أية مواجهة، وبقي أولئك ثلاثمائة وسبعون، فتعاملوا مع أحد القادة الطاجيك وأعطوه مالا ليؤمن لهم ظهورهم للخروج وشرط عليهم مالا باهظا وبعدما أعطوه إياه وخرجوا أحسوا بالغدر وأنه سيغدرهم من ورائهم، وأنه أخبر بهم حزب الوحدة الشيعي وأنه أقام لهم كمينا في الطريق، فاستشاروا ماذا يعملون فقرروا أخيرا أن لا يقاتلوا الطاجيك الذين تركوهم وراءهم لأنهم من قوات رباني، وألا يذهبوا إلى الشيعة أمامهم لأنهم لا يدرون حجمهم العسكري، فقرروا أن يهجموا على القوات الأمريكية المتمركزة في مدينة مزار الشريف، وفعلا هجموا عليها فوجدوهم في غرة، وقتلوا منهم أعدادا كبيرة تزيد على سبعمائة، وقتلوا بعض قياداتهم الكبيرة، وفعلا قصفتهم الطائرات فقتل أكثرهم ونجا بعضهم، هذه القصة هي التي حاكها الإعلام الغربي على الوجه الأول الذي سمعتم والذي تيقنتم جميعا، وكنتم تقتنعون به دون أن تراجعوا فيه أنفسكم، إن هذه القصة ليست وحدها الحاصلة، بل قد تكرر نظيرها كثيرا في أفغانستان وفي فلسطين و في غيرها، والمعادلة بسيطة أن المشركين يرون أن آخر عقاب يمكن أن يعاقبوا به الناس القتل والقصف تهديم البيوت، والمسلمون المجاهدون يرون أن أكبر ميدالية وأكبر شرف الشهادة في سبيل الله، فإذن ماذا يريدون منهم، إن الذي ينظر على مستوى الإعلام الغربي ويسمع يظن أن الهزيمة النكراء قد أصابت المسلمين وأنما أصابهم كانوا في غنى عنه، وأنه لا ينبغي أن يقع الإقدام عليه أصلا، وأنه من المجازفات التي لا فائدة من ورائها، ولكن الواقع أن الحرب كانت قائمة، وأن المشركين كانوا قد قرروا غزو أفغانستان وغيرها من البلدان الإسلامية في نهاية عام ألفين وواحد، قرروا ذلك عام ألفين وأعلنوه كما شهد بذلك شاهد منهم وهو وزير الدفاع الباكستاني، قد أخبر أنهم أخبروه بأن الحرب ستكون على الطلبة في أفغانستان في نهاية عام ألفين وواحد، فالخطة كانت قبل سنة جاهزة، وحاملات الطائرات كانت قبل أشهر رابضة في بحر العرب وفي الخليج وفي غيره، كذلك فإن من هذه الحرب الإعلامية أن كثيرا منكم يسمعون أن فلسطينيا فجر نفسه في مكان عام أو في ثكنة عسكرية يهودية في البلاد المقدسة، وأن اليهود على أثر ذلك قاموا بالتمشيط وإغلاق المدن الفلسطينية وإحراق الزيتون والمزارع، وقتل أعداد هائلة من الفلسطينيين وتهديم البيوت وشن الغارة على المدن بالطائرات والصواريخ، فيقول قد كان هذا الفلسطيني غنيا عن أن يفجر نفسه، والسبب أنكم سمعتم هذا التحليل الإعلامي الذي هذا مقتضاه، ولكن الواقع خلاف ذلك، ما الذي جعل الفلسطيني يفجر نفسه؟ ما الذي جاء باليهود حتى يدنسوا البلاد المقدسة ؟ ماذا يفعلونه بالمسلمين في السجون؟ ماذا يغيرون من حرمات الله والأماكن المقدسة التي ما من نبي من الأنبياء السابقين إلا وقد عبد الله فيها؟ إن السبب يتعداه الإعلام ولا يعرج عليه، وإنما يذهب إلى أمر قريب فيبني عليه تصرفا، إن الأمريكان مثلا يزعمون أن سبب غزوهم لأفغانستان هو تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر التي حصلت في نيويورك وواشنطن، ويزعمون أن أسامة بن لادن كان من ورائها، وأن الطلبة كانوا من وراء أسامة بن لادن، ولا تزال الما ورائيات تتسلسل، فوراء الطلبة أيضا كل المسلمين، ووارء المسلمين الإسلام نفسه ووراء ذلك جنود الله التي لا يمكن أن يحصوها، الواقع أن أسامة بن لادن رجل واحد من المسلمين، وفي المسلمين مليار وزيادة من الرجال وهم جميعا حريصون على دخول الجنة، وهم جميعا خائفون من النار، وهم جميعا مستعدون لإرضاء الله ورسوله ومستعدون للتضحية دون الدين الذي جاء به رسول الله (ص)، ومستعدون جميعا للجهاد في سبيل الله، لو قتل أسامة بن لادن، أو أسر، فقد قتل من هو خير منه وأسر، وقد قال الله في محكم كتابه، ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ﴾، اليهود عليهم لعائن الله قالوا من قبل إن مشكلة فلسطين هي الشيخ عز الدين القسام، كبير السن، لكنهم كانوا يخافونه لأنهم يظنون أن الإرهاب كله خرج من تحت عمامته، فقتل عز الدين القسام، ماذا حصل بعد ذلك، هل توقف الجهاد في سبيل الله في فلسطين، ظنوا بعد ذلك أن أحمد ياسين من وراء الانتفاضة فسجن أحمد ياسين وهو الآن تحت الإقامة الجبرية، وهو لا يستطيع أن يحرك أي عضو من أعضائه إلا المسبحة التي يشهد بها أن لا إله إلا الله، وإلا لسانه الذي يرعب به اليهود، زعموا أن التفجيرات من ورائها يحيى عياش رحمه الله، فقتل يحيى عياش هل توقفت التفجيرات؟ زعموا بعد ذلك أن من ورائها فتح الشقاقي فقتل فتح الشقاقي هل توقفت التفجيرات؟ زعموا من وراء ذلك أن من ورائها أبو هنود فقتل أبو هنود هل توقفت التفجيرات، إن الأمر مستمر سيموت الآباء في الحرب والأبناء حتى يقاتل الأحفاد، ما دامت البلاد الإسلامية مستعمرة، ما دام اليهود يعيثون في مقدسات المسلمين فلا بد أن يستمر القتل وقد كتب الله عليهم الذلة والمسكنة، وتعهد لهم في محكم التنزيل بأن يسلط عليهم من يسومهم سوء العذاب إلى يوم القيامة، ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ ليس هذا مختصا باليهود عليهم لعائن الله وحدهم، بل إن الله سبحانه وتعالى بين موقع الإرهاب فقال: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ﴾ إن من دونهم آخرين لا يعلمهم كثير من الناس، وكثير منهم ممن يدعي الإسلام ويعلن الشهادة، بل ربما صلى مع المسلمين في المسجد، وكان لأبوين مسلمين صالحين، ومع ذلك هو من الآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم، إن أولئك كتب الله عليهم الإرهاب وسيرهبون وستسلط عليهم القوارع، ﴿وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾ لا يزال أولئك يتعرضون لسوط من عقاب الله، إما بالمباشرة من عند الله وإما بأيدينا، ونحن وإياهم نتربص، ﴿فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ﴾ ولا شك أننا مؤمنون بأن وعد الله لا يخلف، وأن الله سينجز لنا ما وعدنا من النصر والتمكين،  ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ إن هذه الهموم المتعلقة بفلسطين وأفغانستان وغيرها، هي جزء يسير من هموم هذه الأمة، وكثير من الناس همه هو أخذ الأخبار على وجهها الصحيح، وأنا لا أرى وجها لذلك، فالذي يبحث عن الأخبار ولا تكون له مشاركة قد تمثل حال المنافقين، وأخذ موقفا من مواقفهم، فهم الذين يتمنون أن يكونوا في الأعراب ﴿يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا﴾ فلا تكونوا في الأعراب تسألون عن أنباء الجهاد، أو عن أنباء هذه الأمة، واعلموا أن هذه الأمة جسد واحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر، وأن كل قطيعة تعرض لها أي طرف من أطرافها لا بد أن تحس بها الأطراف الأخرى وأن تنتفض لها، إن اليهود قد أرادوا كما أخبروا بذلك أن تكون أمريكا خالصة لهم من دون المؤمنين وقد سعوا لذلك، فبعد أن حصلت أحداث الحادي عشر من سبتمبر ونحن نعلم أن أمريكا تمتلك أسطولا كبيرا من الأقمار الصناعية يزيد على تسعة وثلاثين قمرا صناعيا تجسسيا وتمتلك الشبكات حول العالم للتجسس، وقد ذكروا أن لهم أربعين ألف موظف في البلاد العربية لا يعرف أنه موظف لصالح الأمن الأمريكي، ومع ذلك لم يخرجوا أي برهان أيا كان يثبت أن للمسلمين أي ضلع في قضية التفجيرات، لا صورة ولا تسجيلا صوتيا ولا بصمة ولا شيكا موقعا ولا سحبا ببطاقة ائتمان، ولا كلاما هاتفيا ولا تسجيلا في الصندوق الأسود لأية طائرة من الطائرات فلذلك يعلم أن أمريكا إنما تريد التجني على المسلمين وأنها حرب صليبية، وأنها غزوة  الأحزاب الأخرى في هذا العصر، ولذلك شاهدوا المواقف تتكرر، فقد شاهدنا عددا كبيرا من الذين كانوا يدعون الإسلام ويزعمونه وأسماؤهم أسماء إسلامية وهم من أولاد المسلمين كرروا مقال سلفهم من المنافقين فقالوا: مَا ﴿وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا﴾ وقد انقسم هؤلاء إلا قسمين، القسم الأول أصحاب الصراحة الذين يريدون تغيير كل شيء اسمه جهاد وإلغاء ذلك من الدين وتغيير مناهج التعليم، وهذه المناهج التي تخرج أمثال أسامة بن لادن وأمثال الطلبة لا بد من تغييرها، وهذا الكتاب الذي يحض على قتال الكفار والمشركين لا بد من تغييره، وهؤلاء مباشرة قد استجابوا لفلم وثائقي بث في القنوات الغربية في يوم الثلاثاء الحادي عشر من سبتمبر وقد شاهدته في قناة فرنسية هذا الفلم أخرج حوالي خمسين لقطة من خمسين بلدا من البلاد الإسلامية كل لقطة تمثل الإسلام في نظرهم، من أغرب ما شاهدت فيه لقطة تمثل عجوزا كبيرا من السنغال في كوخ متهاو وهو يعلم الأولاد القرآن وبأيديهم الألواح وبيده سوط صغير يضربهم به على قراءة القرآن وأحد الألواح كتب فيه و الشيخ يقرأ ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ فالمعلق يقول: هذا يضرب الأولاد ليقاتلونا، هذه لقطة تمثل الإسلام في السينغال، لقطة أخرى من باكستان امرأة باكستانية تعلم بناتها الحروف العربية والأردية، فالحروف العربية هي الحروف الأردية، فتكتب: ا: أشهد أن لا إله إلا الله، ب: بسم الله الرحمن الرحيم، ج: جهاد، يقولون حتى هذه المرأة تعلم بناتها الجهاد، هذه اللقطات التي أخرجوها في هذا الفلم الوثائقي عن الإسلام أثرت في هؤلاء المنافقين فصرحوا بنفاقهم وأصبحوا يطالبون بتغيير المناهج وأصبحوا كذلك يطالبون بإغلاق المساجد وبوضع قوانين تنظمها، وهم يزعمون بذلك أنهم يريدون الحفاظ عليها وخدمتها، وأصبحوا يطالبون بتأميم كل المؤسسات الدينية، وأن تصبح خاضعة للنظام يعاقب النظام على جريرتها ويحاسب على ما تعمل، وهذا ما لا يمكن أن يقع أبدا حتى ينزل المسيح بن مريم حكما عدلا إن شاء الله، النوع الثاني منهم هم الذين انهزموا انهزاما كبيرا فجعلوا ينفون اتهام الإسلام بالإرهاب، يقولون الإسلام بريء من الإرهاب، وينفون أية صلة للإسلام بالجهاد في سبيل الله، ويكابرون بذلك مكابرة ما عرفنا مكابرة أعظم منها، إن من أنكر الجهاد في الإسلام فإنكاره للسماء والأرض أهون من إنكاره للجهاد، فهذا الدين دين جهاد، والنبي (ص) بعث بالسيف بين يدي الساعة، كما أخبر بذلك، وهؤلاء المنهزمون يظنون أنهم إذا أنكروا صلة الإسلام بالإرهاب فإن ذلك يقتضي الحفاظ على بيضة المسلمين ويقتضي الحكمة، ويقتضي أن تبقى الأمور في مجاريها ونصابها، وأنهم يتقون كيد الأعداء بهذا وأنهم يفعلون ذلك تقاة لهم فقط، ولكن الواقع أن هذا هو إعلان للهزيمة، وهؤلاء لو سئلوا الفتنة لآتوها وما تلبثوا بها إلا يسيرا، الموقف الثالث موقف المخذلين وما أكثرهم في هذا الزمان في هذه الغزوة، غزوة الأحزاب المعاصرة، فإن كثيرا منهم يقولون ويلكم، أتريدون جهاد أمريكا، ألا تعلمون أن أمريكا هي التي بيدها الأمر كله وإليها يرجع الأمر كله، يؤلهونها من دون الله، وينسى هؤلاء أن البيت الأبيض الذي هو مصدر القرار في أمريكا أنزل فيه طائش أمريكي طائرة دون أن ترصدها وسائل الرصد الأمريكية، وينسون كذلك أن أهم الوثائق الأمريكية قد سرقت من وزارة الخارجية، وأن كثيرا من الوثائق المتعلقة بحرب العراق قد سرقت من البنتاغون، وأن الطائرة التي ضربت البنتاغون منذ ثمانية عشر دقيقة قد أخبرت عنها البنتاغون، وأخبرت أنها متجهة إليها، ومع ذلك لم تستطع التصرف خلال ثمانية عشر دقيقة، شلت أركانها وختم على جوارحها ولم تستطع أن تتصرف أي تصرف، وهذا ليس شيئا من أخذ الله، فالله سبحانه وتعالى هو القدير، ما أقدره على أن يأمر البحر فيبتلع ما فيه والبر فيبتلع ما فيه، والفضاء الخارجي فيبتلع ما فيه، والجو فيبتلع ما فيه، إن الله لم تنقص قوته شيئا، الموقف الأخير موقف المنهزمين من المسلمين الذين أقبلوا على مصالحهم الخاصة وتركوا شأن العامة، وأصبحوا ينكرون الصلة بأي ملتزم وبأي جهاد، ويقولون أولئك لا صلة لنا بهم، وليس بيننا وبينهم أية علاقة، وهم يكذبون بذلك ويكذبون أنفسهم، إنما أرادوا بذلكأن يقولوا: ﴿بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا﴾ إن هذه المواقف الأربعة بعد أن اتضحت جلية لكم للعيان، لا بد أن نعرضها جميعا على أنفسنا، كل إنسان منا عليه أن يراجع نفسه وهو يشهد غزوة الأحزاب وقد حضرها فأين هو، هل كان من أصحاب الموقف الأول المشرف الذين قالوا: ﴿ هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ﴾، فتذكروا أن الرسول (ص) أخبر بهذه الفتن التي بين يدي الساعة، و أخبر بأن منها فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمنا ويمسي كافرا ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض من الدنيا، وبين فيها (ص) تكالب الأعداء على هذه الأمة، وأنهم سيتداعون إليها كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، وأن ذلك ليس من قلة، وبين كذلك أن الوهن سيدب في نفوس هذه الأمة فقيل: وما الوهن يا رسول الله فقال: «حب الدنيا وكراهية الموت» وبين (ص) كذلك أنه سيولى على هذه الأمة أمراء يخذلون هذه الأمة ولا يقومون لله بالحق ويكونون مع الأعداء على هذه الأمة، فنحن جميعا نقول: ﴿ هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ﴾، فنحن نشهد أن ما قاله رسول الله (ص) من ذلك قد تحقق وقد رأيناه فآمنا به وصدقنا، لكن علينا بعد هذا أن نستسلم لحكم الله، فليس يكفي أن نؤمن بالقدر دون أن نعمل بالشرع، فهما خطابان من أمر الله لا بد  من إعمالهما معا، فإيماننا بالقدر يقتضي منا أن لا نخاف إلا الله، وأن نعلم أن الموتة التي كتب الله علينا سنموتها، ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ﴾ ونحن نعلم أن الموت إنما هو بيد ملك الموت الذي يرسله الله لقبض روح من أراد قبض روحه، وأن ذلك لا يمكن أن يتقدم ولا أن يتأخر، ﴿تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ﴾ ونعلم أن أمريكا وغيرها من أعداء الله لا يملكون لأحد من أنفسهم ولا ممن سواهم حياة ولا موتا ولا نشورا، ﴿وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ هذا الموقف يقتضي منا أن نعمل، وأن نبادر لنصرة الله ورسوله، وهنا تكثر أسئلة الشباب ما هو العمل؟ ومن أين نبدأ؟ وما جهادنا؟ وهل من المناسب أن ينطلق شباب الأمة فيتعدى الحدود إذا لم يؤخذ على الحدود، فيتجاوز إلى دولة أخرى لتضعة في سجونها، ثم إذا نجا من تلك السجون ذهب إلى سجون دولة أخرى هل هذا هو الحل؟ الجواب ليس هذا حلا ولا هو جهادكم المطلوب منكم، ولكن عليكم أن تعلموا أنكم قد غزيتم في عقر داركم، وأن وسائل الإعلام غزو، وأن الغزو الفكري أعظم من الغزو العسكري، وأن عليكم أن تتشبثوا بالعزة التي كتب الله لكم، فقد كتب الله العزة لأوليائه المؤمنين، ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾، فلكم العزة التي كتبها الله لكم، ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ وقد كتب الله الذلة والمسكنة والصغار على أعدائكم، لكن لا بد أن تراجعوا أنفسكم وأن تعلموا أن النصر الذي وعدكم الله مشروط، فحققوا هذا النصر واعلموا أن القفز وحرق المراحل وتعدي درجات السلم ليس ممكنا، فلا بد أن يسير الإنسان بخطى وئيدة، فالجهاد الهجومي ذروة سنام الإيمان، وقد جاءني عدد كثير من أولاد المسلمين من جنسيات مختلفة وقد كانوا مقصرين في الصلاة، وكلهم يقول: أنا أريد أن أجاهد في سبيل الله، فأقول: يا أخي أو يا بني إن الجهاد في الذروة وأنت في الحضيض، فعليك أولا بالصلاة فإذا أتقنتها فكر بعد ذلك بالجهاد، إن من لا يستطيع أن يصبر على السجود في الصلاة لا يستطيع أن يصبر على قصف الطائرات والصواريخ، إن مراجعة الإيمان وبناء النفوس المطمئنة الصادقة مع الله أهم وأولى من أن نزج بأنفسنا في أفغانستان أو في فلسطين أو في الشيشان، أو أن نسير فيحال بيننا وبين الوصول إليها، لذلك علينا أن نتذكر الخطة الإسلامية التي لا يمكن أن ينجح عمل هذه الأمة إلا إذا سار عليها، فهذه الخطة تمر بسبع مراحل، المرحلة الأولى منها بناء الفرد المسلم، معناه أن يكون كل فرد منا على مرضاة رسول الله (ص)، إيمانا وتصديقا وامتثالا واجتنابا وتكوينا وتربية واستعدادا فإذا حصل هذا لعدد كبير منا حينئذ تأتي المرحلة الثانية، وهي مرحلة بناء الأسرة المسلمة في حق كل واحد منا، فكل واحد منها عليه أن يحاول بناء أسرة مسلمة، فالأحكام الشرعية كثير منها لا يختص بالفرد في خاصة نفسه وإنما يتعلق بالتعامل في داخل الأسرة ولا بد من تطبيقها، فهو مرحلة سابقة لمرحلة الجهاد، فإذا قام عدد من الأسر المسلمة التي تحقق رضا الله ورسوله تأتي المرحلة الثالثة وهي إقامة المجتمع المسلم الذي يحقق حقوق الجوار وحقوق المسلم على المسلم وحق التآخي والصدق والإخلاص وعدم الغش ويحقق القيم الإسلامية المجتمعية كلها، ثم بعد ذلك تأتي المرحلة الرابعة وهي بناء الجماعة المسلمة التي تسهر على مصالح المسلمين وتقدمها على مصالحها الخاصة وتضحي في سبيلها بالنفيس والغالي وتتقدم لاستقبال الرصاص فتحل أزرار القميص وتقول ﴿وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى﴾ ثم بعد هذا تأتي المرحلة الخامسة  وهي بناء الدولة المسلمة التي تقيم شرع الله على عباد الله في أية رقعة من رقاع هذه الأرض الواسعة الشاسعة، وتقيم الحكم على وفق ما أقامه رسول الله (ص)وخلفاؤه الراشدون، فإذا تحقق ذلك جاءت المرحلة السادسة وهي إقامة الخلافة الإسلامية التي تجمع الدول الإسلامية كلها وتكون رمز وحدتهم، وهي التي تستطيع إعلان الجهاد على أعداء الله، ثم تأتي المرحلة السابعة وهي إعلان الجهاد على من حاد الله ورسوله، هي أستاذية العالم، وإنما يعلن الجهاد حينئذ من استطاع أن تكون له دولة يعلن منها الجهاد، وله جيش، فإن رسول الله (ص) لم يعلن الجهاد على المشركين في العهد المكي وإنما أعلنه في العهد المدني بعد أن قامت له دولة، فجهاد المسلمين أولا بإقامة جيش من المسلمين تتحقق فيهم صفات التمكين، ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ ثم بعد ذلك بناء الأسر على وفق مرضاة الله ورسوله، ثم بعد ذلك إقامة المجتمع المسلم الصالح الذي يطبق ما أمر الله به وهو مدرسة الجهاد، ثم بعد ذلك إقامة الجماعة المسلمة الراشدة التي تنوب عن رسول الله (ص) في إعلاء كلمة الله وإقامة دولة الإسلام، ثم بعد ذلك إقامة دولة الإسلام، ثم بعدها إقامة الخلافة، ثم إعلان الجهاد على أعداء الله، إن هذه المراحل، لا بد أن تخضع لتخطيط استراتيجي منهجي يقوم على أساس الوسائل والأهداف الوسيطة التي لا يمكن أن يقوم بها إلا أهل الحل والعقد من المسلمين، وهم الذين يجمعون ثلاث صفات هي العلم والعدالة وجزالة الرأي وقد قال مالك رحمه الله \"لا أراها اليوم تجتمع في واحد، فإن لم تجتمع فورع عاقل، فبالعقل يسأل وبالورع يكف وفي رواية يعف\" ثم إن هذا الجهاد المطلوب لا يدخل فيه جهاد المحتلين لبلاد الإسلام فالفلسطينيون يجب عليهم أن يجاهدوا حتى قبل إقامة الأسر وقبل إقامة الدولة الإسلامية، والأفغان كذلك ما دامت أمريكا تحتل بلادهم يجب عليهم الجهاد ويجب على المسلمين نصرتهم ومساعدتهم جميعا، ويجب عليكم جميعا أن تشاركوا في ذلك، وهكذا كل بلد من بلاد الإسلام احتله أعداء الإسلام وغزوه فيجب على أهله مباشرة أن يجاهدوا وأن يقاتلوا ويجب على المسلمين أن يؤازروهم وينصروهم بكل ما يستطيعون من أنواع النصرة، وإذا لم يفعلوا فهم الآثمون والله غني عنهم وعن نصرتهم، وسينصر الله أولياءه وسيحق الحق بعز عزيز أو بذل ذليل والعاقبة للمتقين ولا بد أن يقيم الله سبحانه وتعالى علم الجهاد ولا بد أن ينصر الله سبحانه وتعالى هذا الدين، ولا بد أن يقمع الكفرة والملحدين، وسيكون ذلك قريبا إن شاء الله سبحانه وتعالى، والله ولي التوفيق، والله أكبر ولله الحمد وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

الأربعاء, 08 ديسمبر 2010 16:09
 

آخر تحديث للموقع:  الجمعة, 12 أبريل 2024 20:59 

النتائج النهائية لمسابقات دخول المركز

اشترك في القناة

موقع مركز تكوين العلماء

برامج تلفزيونية

جديد الموقع

إحصائيات

المتصفحون الآن: 24 

تابعونا علــــى:

تابِع @ShaikhDadow