الخطاب الدعوي

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، أما بعد فإن الله سبحانه وتعالى بنى هذه الحياة الدنيا على سنن ثابتة لا تتغير، وهذه السنن هي من أمر الله سبحانه وتعالى وقدره، ولا يمكن أن تتخلف كما لا يتخلف دوران الفلك وتعاقب الليل والنهار، ومن هذه السنن ارتباط الأسباب بمسبباتها، فالدعوة سبب للهداية، لكنها لا تؤدي إلى هذه النتيجة إلا إذا سارت على وفق سنتها، وعلى وفق ما أراد الله لها، والهداية التي تؤدي إليها الدعوة هي هداية الإرشاد أي إنارة الطريق للناس وأن يعرفوا ما خلقوا من أجله وما أمرهم به ربهم سبحانه وتعالى وما جاءهم به رسول الله (ص)..

لا يمكن أن تنير هذه الطريق للناس ما لم تكن هذه الدعوة مضبوطة بالضوابط الشرعية مرتبطة بالمنهج النبوي الذي سلكه رسول الله (ص) وهو المنهج الناجح والمثال لسلوك طريق الحق، وقد بين ذلك رسول الله (ص) حين قال: «تركتكم على المحجة البيضاء، أو على مثل البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك» فما تركنا عليه رسول الله (ص) هو الذي ارتضاه الله للثقلين الإنس والجن، وهو منهج الله المستقيم، وهو صراطه المؤدي إلى جنته، وهو حبله المتين من تمسك به عصم، وهذا الحبل المتين الذي تركنا عليه رسول الله (ص) هو مثل المحجة البيضاء ليلها كنهارها، وهذا مقتض لبيان كل ما يقع فيه من اللبس والخطإ وضمان لمعرفة الخطإ من الصواب إذا التبس فإن الأمر لو وكل إلى اجتهادات الرجال لتغير وتبدل كحال الديانات السابقة التي عهد بحفظها إلى أصحابها فترون ما حصل فيها من التحريف والتبديل، أما هذا الدين المنزل على محمد (ص)، فإنه معصوم من التغيير والتبديل، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وقد تعهد الله بحفظه وتولى ذلك بنفسه، لم يكله إلى ملك مقرب ولا إلى نبي مرسل، فهو محفوظ بحفظ الله سبحانه وتعالى الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يرفع إليه أمر الليل قبل النهار وأمر النهار قبل الليل، فلذلك لا يمكن أن يقع فيه اختلال و لا اختلاف إلا اتضح للناس خطأه، وبان لهم زيفه، وذلك من عصمة الله سبحانه وتعالى لصراطه المستقيم، ومن حكم ذلك أن النبي (ص) لن يأتي بعده رسول إلى البشرية، لا يمكن أن يأتي بعده نبي فهو خاتم النبيين، فإذا كان الأمر موكولا إلى اجتهادات الرجال أبدا وإلى تقويمهم، فإن ذلك مقتض لزواله وحاجة الناس إلى من يجدده، لكن الله سبحانه وتعالى تعهد بحفظه وقد علم أنه لن يرسل رسولا بعد محمد (ص)، فلذلك لا بد لمن يسلك طريق محمد (ص) أن يسلكها على بصيرة بها، وأن يتعرف على ضوابط سيره ومنعرجات طريقه وما يعرض له كذلك من المشكلات في هذا الطريق، لذلك كان لزاما علينا في الخطاب الدعوي المقدم للناس الذي ينوب فيه صاحبه عن رسول الله (ص) ويؤدي فيه أمانة الله التي عرضها على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان  والذي عهد إلينا رسول الله (ص) بتبليغه للناس في آخر موقف شهده مع الناس، فقال: «ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب فرب مبلغ أوعى من سامع» وعهد إلينا بحفظه كذلك وذكر الفضل العظيم لمن حفظه، فقال فيما أخرج عنه أصحاب السنن من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: «نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأدَّاها كما سمعها، فرب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه» وبين كذلك وظيفة الذين يحمونه ويبينونه للناس، فيما أخرجه أبو عمر بن عبد البر في مقدمة التمهيد، والخطيب البغدادي في شرف أصحاب الحديث من حديث ابن مسعود رضي الله أن النبي (ص) قال: «يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين» فهذه البصيرة بالأمر الذي يدعو الإنسان إليه ضابط من أهم ضوابط الخطاب الدعوي، فالذي يريد أن يدعو على غير علم، ولا يريد أن يتصل بسنة رسول الله (ص) ولا منهجه، ولا يريد أن يسلك طريق الذين سبقوه ولا أن يستفيد مما كانوا عليه ومما أخذوا به، لا بد أن يتردى في الوحل، فلا بد إذن من هذه البصيرة المقتضية لأن يعرف الإنسان برهانه في كل ما يأخذ به، وأن تكون له حجة من الله سبحانه وتعالى في كل ما يعمل، ومن كان على ذلك فهو على نور من ربه إذا وقف فعن علم يقف، وإذا تقدم فعن علم يتقدم، ومن كان هكذا لم يشك في أمر من الأمور ولم يلتبس عليه شيء من المشتبهات، ثم بعد هذا كذالك لا بد من ضابط آخر آكد من سابقه، ألا وهو الإخلاص لله سبحانه وتعالى وقصد وجهه الكريم بالأمر كله، فكل خطاب يقدم الإنسان على طريق الدعوة لا بد أن يكون مخلصا فيه لله تعالى، وإلا كان ضره أكثر من نفعه، لا بد أن يكون الإنسان مخلصا في كل كلمة تصدر منه وكل تصرف يصدر منه، وإلا فإن عدم الإخلاص مضر ضررا بالغا بمقدم الخطاب وبسامعه، لذلك لا بد من مراجعة الإخلاص في كل قول يقوله الإنسان وأن يعلم أن الكلمة التي يقولها أمانة عنده، وأنها ستعرض عليه بين يدي الله في طائره يحمله في عنقه، وستشهد عليه جوارحه بما قال ويشهد عليه الملائكة الكرام المزكَّون عند الله تعالى بما لفظ، ثم بعد هذا لا بد من ضابط آخر وهو ضابط التوسط والاعتدال في الأمر، فإن النبي (ص) حذر من الشطط وحذر كذلك من الإفراط ومن التفريط، فلا بد أن يكون هذا الخطاب وسطا بين الإفراط والتفريط، فالإفراط مقتض من الإنسان أن يبالغ في الأمر مبالغة تخرج به عن نطاق الشرع، وحينئذ لا بد أن يدخله الهوى، والهوى ضد الشرع، والمتمسك به عابد لشريك لله هو الهوى، فالهوى شريك من الشركاء التي تعبد من دون الله عز وجل والذي يتشبث بهواه ويقدمه على خطاب الله مذموم في القرآن بغاية الذم فإنه قد اتخذ إلهه هواه، وتعرفون أن ذلك مبين في سورة النازعات أنه سبب لدخول النار، وأن مخالفة الهوى ونهي النفس عن الهوى سبب لدخول الجنة، ثم بعد هذا لا بد أن يدرك الإنسان معنى هذا التوسط، وأن الإفراط المنهي عنه ليس التجاوز لما كان عليه الناس وليس التجاوز للطور الذي كان فيه الإنسان نفسه بل المقصود بالنهي عن الإفراط تجاوز المنهج النبوي، فإذا كنا نحن  في طور من أطوار ضعفنا أو في طور الطلب والازدياد من العلم أو في طور الاستضعاف في الوسائل فأخذنا بما لدينا وبما نستطيع ثم تجددت نعمة من عند الله سبحانه وتعالى اقتضت زيادة في الأداء والعطاء فليس إعمال تلك النعمة بإفراط ولا غلو ولا مجاوزة، ومثل ذلك في المقابل نهى عن التفريط الذي هو تقصير وهو ركون إلى الراحة وإخلاد إلى الأرض، وهذا التفريط مقتض من الإنسان لترك بعض ما جاء به رسول الله (ص) ورده على الله سبحانه وتعالى، فيكون متخيرا، فما وافق هواه ووافق وقته أخذ به، وما خالفه تركه، وأنتم تعرفون أن فاعل ذلك غير مخلص لله سبحانه وتعالى، بل يأخذ ما يريد ويرد ما يريد، وقد بين الله أن هذا من شأن المنافقين، ﴿وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون، وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين، أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله، بل أولئك هم الظالمون﴾ فلا بد من الاستسلام لأمر الله كله، وإلا فما الفرق بين المسلمين واليهود، إذا كان المسلم يأخذ ما يوافقه ويترك ما يخالفه، أليس اليهود يقولون ذلك؟ يقولون نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض، أليسوا يقولون للنبي (ص) وللمؤمنين معه نطيعكم وجه النهار ونخالفكم بقيته، فإذن لا بد أن يستسلم المسلم لأمر الله كله، وأن يأخذ بالمنهج كله، وقد شرط الله ذلك في الإيمان إذ قال: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما، كذلك فإن هذا المنهج الوسطي مفيد في هذا الخطاب الدعوي في أمور أخرى، منها توصيله لما لا يستطيع الإنسان الوصول إليه بذاته وطاقاته ووسائله المحدودة، فالإنسان إذا أخذ بهذا المنهج المعتدل الوسطي الذي لا إفراط فيه ولا تفريط فإن الحوادث لا تستفزه، فإذا جاء الترغيب والترهيب لم يكن لهما أي تأثير عليه، وإذا جاءت السراء والنعمة لم تطغه، وإذا جاءت الضراء والمحنة كذلك لم تذله، ولم ترده عما أخذ به، ثم بعد هذا لا بد من الأخذ بهذا الضابط فيما يتعلق بالتعامل مع الناس، فالناس قلما تجتمع قلوبهم على الأمر وقد قال فيهم رسول الله (ص) «الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة» فلو أن الإنسان مال مع بعضهم على حساب بعض فإن ذلك سيؤدي من الآخرين إلى النفرة، وقد صح في الصحيح أن النبي (ص) مر على قوم من الأنصار يترامون أي يرمون غرضا نصبوه، فقال: «ارموا وأنا مع بني فلان، فأمسك الآخرون، فقال: ما بالكم؟ قالوا: كيف نراميهم وأنت معهم، فقال: ارموا وأنا معكم كلكم» فلذلك لا بد من هذا التوازن وهو مقتض لجمع القلوب، ثم إن مقابله أيضا مقتض للفرقة والخلاف والنزاع فالإنسان إذا عدل عن هذه الوسطية ومال إلى جانب الإفراط والمبالغة فكثيرا ما يكون خطابه الدعوي تحميسا يصل إلى حد الانفجار دون أن يستغل ذلك في مداره الصحيح وفي وجهه المستقيم، وأيضا إذا جاء بالبرودة والتماوت ولم يؤد الغرض المقصود من هذا الخطاب كان ذلك سببا أيضا لتفلت الناس من حوله وعدم أخذهم بقوله، ثم بعد هذا كثيرا ما يؤدي ذلك أيضا إلى ردات أفعال غير محمودة، مثل ما يحصل في كثير من الأحيان من تكفير بعض الناس لبعض على غير أساس شرعي، فليس التكفير مطلقا مذموما شرعا، بل التكفير المذموم شرعا هو تكفير المسلمين، تكفير من كان آخذا بالإسلام محقا فيه فهذا المذموم شرعا، أما تكفير الكافرين فهو غير مذموم شرعا، ولا يمكن أن يذمه عاقل، ثم بعد هذا من نتائج هذه الوسطية أيضا أنها مقتضية لإمكان الرجعة وللأخذ بالخط الأعدل، فإذا تبين للإنسان الخطأ في بعض تلك الجزئيات والخطوات استطاع الرجوع عن كثب ولم يكن حينئذ حيث لا يمكنه الرجوع، فأنتم تعرفون أن الطرق السريعة إذا أخذ الإنسان بآخر خط منها، لا يمكنه أن يرجع إذا أراد ذلك ولا أن يتوقف أصلا، لأنه قد وصل إلى النهاية في الخط، فإذا أراد الإنسان التوقف أو الرجوع فليأخذ بالوسط أو بالخط الذي يمكنه من الرجعة، كذلك من ضوابط هذا الخطاب أن يكون مع الناس، فالخطاب الدعوي إذا كان يشغل الناس بما لا يعيشونه في حياتهم اليومية ولا يجدونه في واقعهم، أو يتشاغل عما يهتمون به وينفقون فيه ساعات دوامهم فهو خطاب فاشل لأنه في واد والناس في واد آخر، فلذلك لابد أن يكون مهتما باهتمامات الناس ولا بد أن يكون مصاحبا للناس، في تطوراتهم وأحوالهم، ومن هنا فإن الخطاب الدعوي مرتبط بزمانه ومكانه، فتحدثنا مثلا الآن عما كان الناس يتحدثون عنه في بداية انتشار هذه الصحوة من صلاحية الإسلام للتطبيق أو نحو ذلك من الطرح الذي تجدونه في الكتب القديمة المؤلفة في بداية الصحوة هو أخذ بما لم يعد محلا للنقاش، ورجوع في الوسط وفي أثناء الطريق، فلذلك لا يمكن أن يؤخذ به، وإنما مثاله مثال من وصل في سرعة السير إلى السرعة الخامسة ثم أراد أن يتراجع منها مباشرة إلى السرعة الثانية مثلا أو الثالثة دون أن يمر بالرابعة فهذا مضر بسيارته ولا يمكنه من الوصول إلى هدفه، والذي يعيشه الناس ويهتمون به مراعى في الشرع، وقد كان رسول الله (ص) في خطبه وفي توجيهه للناس يتحدث في الوقائع التي يشهدها الناس، ويتكلم فيما يتعلق بحياتهم اليومية، وتعرفون خطابه للمؤمنين في غزوة المريسيع لما حصلت الشحناء والبغضاء بين واردة المهاجرين وواردة الأنصار فقال هذا: يا للمهاجرين وقال الآخر يا للأنصار فقال:«أدعوى الجاهلية وأنا بين ظهرانيكم دعوها فإنها منتنة» فقد كان أهل الجاهلية إذا حصل خلاف بينهم تعزى كل إنسان منهم بعزاء الجاهلية فدعا ذويه وناصريه، وكل يتقوى على الآخر بقبيلته، فجاءت الدعوة الإسلامية فردت هذا المنهج بالكلية، والمهاجرون والأنصار التعزي بهم ليس تعزيا بقبائل ولا بفرق بل هو دعوى بلقب شرعي شريف، فالله سبحانه وتعالى شرف المهاجرين من المؤمنين بهجرتهم إلى الله ورسوله، وشرف الأنصار بهجرة رسول الله (ص) إليهم، ومع ذلك فالنبي (ص) ينكر التعزي بهذا العزاء لما فيه من الشبه بتعزي أهل الجاهلية بعزائهم، ويجعله مثل تعزي أهل الجاهلية تماما فيقول: «أدعوى الجاهلية وأنا بين ظهرانيكم دعوها فإنها منتنة» كذلك فإنه (ص) كان اهتمامه في خطابه الدعوي بأمور الناس وبما يعيشونه جامعا بين أمر الدنيا وأمر الآخرة، فما يتعلق بأمر الآخرة قد سمعتم مثاله، وما يتعلق بأمور الدنيا منه قوله (ص) فيما روت عائشة في الصحيحين في خطبة الاستسقاء أنه (ص) قال: «إنكم شكوتم جدب دياركم واستئخار المطر عن إبان زمانه وقد أمركم الله أن تدعوه ووعدكم أن يستجيب لكم» ثم قال: «الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين لا إله إلا الله يفعل ما يريد، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت أنت الغني ونحن الفقراء إليك أنزل علينا الغيث واجعل ما أنزلت لنا قوة وبلاغا إلى حين» فهنا تحدث رسول الله (ص) عن أمر يهم الناس من أمور دنياهم، وهو ما هم فيه من الجدب واللأواء والضنك وضيق المعاش، فتحدث عن ذلك في خطبته فقال: «إنكم شكوتم جدب دياركم واستئخار المطر عن إبان زمانه» وذكر  الحلول الشرعية وهي أن الله سبحانه وتعالى أمرهم أن يدعوه ووعدهم أن يستجيب لهم إذا دعوه، ثم إن رسول الله (ص) كذلك في عنايته بما يعيشه الناس من أمور حياتهم كان يحدثهم بما يشبهها من حياة الآخرين، لتكون تجارب لهم، وحتى في شؤون البيت والخاصة، فهذه عائشة أم المؤمنين تروي عنه حديث أم زرع في الصحيحين، وقد بين فيه رسول الله (ص) أنه كان لعائشة كأبي زرع لأم زرع غير أنه لا يطلقها، وهذا الحديث فيه ذكر لكثير من الحالات الاجتماعية في خصائص البيت وبعض هموم النساء وما يجدنه في بيوتهن من المضايقة، وفي بداية الحديث «جلس إحدى عشرة امرأة تعاهدن وتعاقدن أن لا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئا»، وهذه الأمثلة لحياة الناس وسلوكهم وتصرفاتهم الاجتماعية عناية النبي (ص) بها وبيانها لأمته كل ذلك يدخل في هذا الإطار وفي نطاق عيش الخطاب الدعوي مع هموم الناس وما هم فيه، فمن المشكلات ما يتكرر في كل حال، وهو الاجتماعيات التي يعيشها الناس، هموم البيت ومشكلات العلاقة بين الزوجين، وكذلك تربية الأولاد، وكذلك أمور المعاش وما يعرض فيه من الضيق والسعة، وكذلك أمور الجيران وحقوقهم، وهكذا فهذه أمور متكررة لا بد من علاجها في الخطاب الدعوي، ولا بد أن تأخذ حيزها المناسب فيه لأنها مما يعيشه الناس ومما يتكرر في حياتهم اليومية، ومثل ذلك شؤون العالم من حولنا، فلا بد في ضوابط الخطاب الدعوي أن يتناول هذه الهموم و الشؤون، فهذا البشر يرتبط جميعا في دوائر ارتباط، قاصيه ودانيه فيها سواء، والعالم اليوم أصبح كالقرية الواحدة ووسائل الإعلام ووسائل الاتصال معينة على ذلك، فمن لم يعتن بالحضارة وأوجهها وتناقلها وبأنواع أنماط معاش الناس وما يتعلق بذلك لا بد أن يدهمه بعض المحذور في بلاده، فنحن اليوم إذا لم نتحدث عن أوجه حياة الغربيين وما يعيشونه في بلادهم ما كان منه إيجابيا وما كان منه سلبيا فسيدهمنا ذلك في بلادنا وسيأتي عبر وسائل الإعلام التي لا نستطيع التأثير فيها، وسيتخلق به كثير من المنهزمين أمام ضغط هذه الحياة، والمبهورين كذلك بالحياة المادية الغربية، ومن هنا فلا بد أن يكون الخطاب الدعوي ناقلا لتجارب الآخرين، ولا بد أن يكون مطلعا على تداول هذه الحضارة ورقيها وهبوطها وبيان ما يتعلق بذلك من التأثير على نفسيات الناس وثقافتهم واهتمامهم، كذلك من هذه الضوابط أن الخطاب الدعوي السليم لا بد أن يكون مشاركا في تكوين الرأي العام لهذا البشر، فهذا البشر يتصرف على أساس القناعة، وهذه القناعة ليست فطرة فطر الله عليها الناس بل قد قال الله تعالى: ﴿والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا﴾ لكن الله أعطانا وسائل للتطلع على ما حولنا ندرك من خلالها قناعاتنا، هي التي تتكون من خلالها القناعات ولذلك قال: ﴿والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة﴾ فهذه هي وسائل الإحاطة بما حولنا ومن خلالها يتكون الرأي العام، وكذلك قال في امتنانه على الإنسان، ﴿ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين وهديناه النجدين﴾ فهذه الوسائل التي امتن الله بها سيستغلها الناس، واستغلالهم لها مقتض للتعرف على ما حولهم ومن خلال ذلك ترسخ فيهم القناعات التي على أساسها يبنون مواقفهم وتصرفاتهم، ومن هنا فالرأي العام مؤثراته الأساسية هي: أولا البيت الذي يتربى فيه الإنسان، ثانيا المدرسة التي يدرس فيها، ثالثا الشارع الذي يعيش فيه، رابعا وسائل الإعلام التي يسمعها، خامسا التأثر بالمصاحبة وتدخل فيه الدعوة، التأثر بالمصاحبة أي بأخلاقيات الناس ومعاملتهم فهذه المؤثرات الخمسة التي يبنى من خلالها التصور العام للإنسان الذي نسميه الرأي العام وعلى أساسها تكون المواقف، ونحن في زماننا هذا بلينا بفساد أكثر هذه الوسائل وانحرافها وعدم استغلالها الاستغلال الصحيح، فمثلا لا بد أن يكون الخطاب الدعوي مؤثرا في صلاح البيوت لأن البيت هو أول وسيلة تؤثر في الرأي العام لدى الذين يتربون فيه، ثانيا لا بد كذلك للخطاب الدعوي أن يكون مؤثرا في المدارس التي يدرس فيها الناس، لأن هذه المدارس مؤثرة في قناعاتهم واهتماماتهم، ولذلك لاحظوا أن الطلاب الذين يدرسون في المدارس ويأخذون مواد شتى عن أساتذة متنوعين في نهاية تخرجهم من تلك المدرسة سترسخ لديهم قناعات، فمجموعة منهم ستتأثر بأستاذ مادة من تلك المواد فستهتم بتلك المادة، مجموعة أخرى لا تتأثر بأستاذ من الأساتذة لكن أعجبتها مادة تذوقتها فاهتمت بتلك المادة، ومجموعة أخرى رأت الجميع كَلاَّ وتعبا فتأثرت بذلك انطواء وانزواء وقطعا لمشوار التعلم وطريقه، فهذا ما تشهدونه في كل مدرسة يتخرج منها الناس وهذا من المؤثرات في الرأي العام، فلا بد من دخول الخطاب الدعوي للمدارس حتى يكون مؤثرا في اختيار التخصصات، وفي اختيار مناهج الأساتذة وفي تقويم الأشخاص، وحتى في اختيار المواصلة في طريق طلب العلم، وحفز الناس على ذلك، كذلك المؤسسة الثالثة المؤثرة في الرأي العام هي الشارع، وهذه أيضا لا بد أن يدخلها الخطاب الدعوي بقوة لما لها من الخطر العظيم الذي نبه إليه الرسول الكريم (ص)  في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه في الصحيحين عندما قال: «إياكم والجلوس في الطرقات، قالوا يا رسول الله: ما لنا من مجالسنا بد نتحدث فيها، فقال فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه، قالوا وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: غض البصر وكف الأذى ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» فهذه هي أوجه تدخل الخطاب الدعوي في الشارع، «غض البصر وكف الأذى ورد السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» وهذه إذا ظهرت في الشارع فيستأثر تأثرا إيجابيا وستكون المعلومات المتلقاة عن طريقه أو الأخلاق المكتسبة عن طريقه مؤدية إلى النتيجة المطلوبة في الصلاح، ثم بعد هذا المؤسسة الرابعة هي وسائل الإعلام، وهذه الوسائل يسمعها الناس رضوا أم أبوا، كثير من الناس لديه هواية تتبع وسائل الإعلام فيسمع نشرة الأنباء في إذاعة معينة ثم إذا انتهت نقل الموقع إلى إذاعة أخرى ستعيد عليه الكلام نفسه ثم ينتقل إلى إذاعة أخرى وهكذا، وهكذا آخرون أيضا لديهم هذه الهواية في تتبع الشاشات التلفزية فهم يتنقلون من قناة إلى قناة كلما انتهى برنامج أو بث قناة من القنوات انتقلوا عنها إلى قناة أخرى، وآخرون أيضا شغلوا بوسائل الإعلام المقروءة فلا يكتب عمود في جريدة ولا مجلة إلا تابعوه، وجل أوقاتهم مشغولة بذلك، وآخرون أيضا شغلوا بوسيلة الإعلام التي هي أكثر شيوعا أو إثارة في زماننا هذا ألا وهي الإنترنت، فهم يتتبعون المواقع التي تعد بمئات الآلاف، ويُشغلون بها، فتأخذ حيزا كبيرا من أوقاتهم واهتماماتهم، لا شك أن هذه الهواية لا بد أن تؤثر في صاحبها، فالإنسان الذي سمع الخبر خمس مرات وسمع تحليله كذلك من عدة أوجه لا بد أن يأخذ منه موقفا والإنسان الذي قرأ التحاليل حول هذا الموضوع وسمع وجهات النظر المتباينة لا بد أن يكون له موقف منه، وهكذا في كل وسائل الإعلام لا بد أن تترك أثرها في سامعها، وهذا الأثر منه ما هو إيجابي ومنه ما هو سلبي فالأثر الإيجابي إذا كانت وسائل الإعلام تؤدي دورها الحقيقي في صدق النقل في الخبر وكذلك أن تكون أيضا موضوعية في التحليل، وكذلك أن لا يقع الإسراف في تتبع ما منه بد، فعلى الإنسان أن يقتصر على ما لا بد منه، إذا تجاوز ذلك إلى ما منه بد فستستغرقه الفواصل الموسيقية والدعايات لأنواع من التجارات ونحو ذلك فتأخذ أيضا حيزا من وقته وتضيع عليه فرصا من عمره، وبذلك لا بد أن يدخل الخطاب الدعوي إلى وسائل الإعلام، ولا يكفي مجرد الدخول من هذا القبيل بل لا بد أن يكون ذالك الدخول مؤثرا، فأنتم تعلمون أن وسائل الإعلام اليوم لم تعد وسيلة تثقيف فقط، بل في المقابل أيضا أصبحت وسيلة إرهاب وأصبحت وسيلة حرب، وأصبحت أيضا وسيلة تضليل كل ذلك تُستغل له وسائل الإعلام، فقد اكتشف الناس منذ الحرب على الإسلام في أفغانستان خطر وسائل الإعلام، فإن وسائل الإعلام مملوكة للغربيين، وهي خاضعة لهم، وقد استغلوها للحرب على المسلمين وتضليلهم فلا تنقل الأخبار الصحيحة أبدا، وقد ذكرت لكم مثالها فيما قبل على نحو ما قال الشاعر: «إن يعلموا الخير أخفوه وإن علموا** شرا أذاعوا وإن لم يعلموا كذبوا» أو كما قال الآخر: «إن يسمعوا سبة طاروا بها فرحا** عني وما سمعوا من صالح دفنوا** صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به** وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا»، وهكذا فيما يتعلق بالتضليل فإن وسائل الإعلام تستغل الآن للتحسين والتقبيح، فكثير من الموضات في الملابس وفي حلق الشعر وفي تصفيفه وحتى في أسلوب الكلام وفي هيئة النطق كلها تبث عن طريق وسائل الإعلام فيتأثر بها فئام من الناس، وكذلك فيما يتعلق بالإرهاب فإن وسائل الإعلام في كثير من الأحيان تكون وسيلة للإرهاب سواء كان ذلك الإرهاب فكريا كما شهدتم في الفترة الماضية في وسائل إعلامنا هنا فإن استغلالها قد كان استغلالا إرهابيا بشعا أريد به صرف الناس وتشكيكهم في آرائهم وتشكيكهم حتى في اعتقاداتهم وتشكيكهم في قناعاتهم وفي كثير من مسلمات دينهم وتراثهم، واختلاق حرب وهمية ليس لها أي أساس ولا يسعفها أي دليل، وكذلك شغل الناس في أوقاتهم كلها بما لا فائدة فيه، وحصر النقاش الذي كان من المهم أن يكون علميا دقيقا في مسائل هي من المسلمات وليست محل البحث، حتى تتطرق الأذهان إلى أنها محل للبحث والأخذ والرد، ويسأل عن الرأي المقابل ما هو في هذه المسألة إذا وجد الاهتمام بها فمن المعهود لدى الناس أن وسائل الإعلام لم تكن راعية في يوم من الأيام لفقه ولا لأصول ولا لحديث ولا لغير ذلك من المواد العلمية المهمة، فإذا رأوا تركيزها على مادة من المواد واستدعاءها لمن يناقش تلك المادة ظنوا أن الأمر فيه جديد، وكأن تشريعا جديد أنزل من السماء أو كأن الأمر قد تجدد فيه ما ليس معهودا لدى الناس، ومثل ذلك التشكيك في أمور من أمور الدين، فقد سمعنا في وسائل إعلامنا في الحملة الماضية من يقول في التلفزيون وفي الإذاعة إن الجهاد باطل بعد فتح مكة ولا يحل، وقد سمعتم ذلك لا محالة، وتكرر هذا الكلام وأعيد كثيرا من المرات، وهذا من الإرهاب الفكري الواضح، فهو رد على النبي (ص) وهو دعوى أن غزوة حنين وغزوة الطائف وغزوة تبوك وغيرها من الغزوات التي كان فيها رسول الله (ص) بعد فتح مكة كلها باطلة محرمة، وأن عمل الخلفاء الراشدين كذلك في فتح مشارق الأرض ومغاربها كله باطل، وهذا يقتضي أيضا بطلان وجودنا نحن هنا، فما الذي أتى بنا نحن هنا إلى هذه البلاد أليس الجهاد في سبيل الله والغزو لإعلاء كلمة الله، فالمتكلم بذلك يكذب نفسه لأنه ما جلس هنا وما تكلم من هذا الموقع إلا بسبب الجهاد في سبيل الله فهو الذي أوصله إلى هذا المكان، ومثل ذلك أيضا بعض الأقوال المشابهة، فقد سمعنا من المتحدثين من يقول إن طاعة ولي الأمر واجبة ما لم يأمر بكفر بواح، وقد أعيد هذا الكلام على الأسماع في التلفزيون وفي الإذاعة مرارا وتكرارا، وهذا مقتض لأن ولي الأمر إذا أمر بشرب الخمر أو بالزنا أو بغير ذلك وجب أن يفعله الإنسان لأنه قال: تجب طاعته ما لم يأمر بكفر بواح، وهذا قد يكون خطأ في القول، قد يكون صاحبه أراد حقا فانحرف إلى باطل هو من الباطل البين الذي لا لبس فيه ولا شك أن صاحبه لا يعتقده ولا يريد أن يقوله أبدا، لكن وسيلة الإعلام التي كررته وتعمدت نشره والتنويه به أرادت له أن يكون إرهابا فكريا مصادرا لقناعات الناس ولثوابت دينهم ولأمورهم التي لا تقبل النقاش لديهم بوجه من الوجوه، لذلك لا بد أن يدخل الخطاب الدعوي وسائل الإعلام بقوة، وبتميز كذلك حتى تكون نافعة مؤثرة، لأنها إذا ترك لها الحبل على الغارب حصل ما رأيتم، إما أن يقاطعها الناس ويعرضوا عنها، وحينئذ تقع الخسارة ويبقى مكان من تصور الناس ومن وسائلهم غير مشغول، وإما أن يستمعوا إليها ويأخذوها بِغَثِّها وسمينها إن كان فيها سمين، ويتشربوها كما هي فهذا خطأ وخطر عظيم على اعتقادهم ومسلمات دينهم، فلذلك لا بد من الانتقاء الذي يمكن أن يحصل إذا دخلها الخطاب الدعوي المتميز المعتدل والخطاب الدعوي وسائله للإعلام منوعة متعددة، فأنتم تعلمون أن الإنترنت مثلا وسيلة مفتوحة للخطاب الدعوي ويمكن من خلالها تقديم كل إنسان لواجبه، وسيطلع عليها الملايين من الناس دون حدود، لا تحتاج إلى تأشيرات ولا إلى تذاكر سفر، بل يصل الخطاب إلى ملايين البشر في نفس اللحظة، بدل أن يجتمع الناس لمحاضرة يسمعونها في مكان ضيق كل إنسان يسمعها في بيته وفي المكان الذي هو فيه دون أن يحتاج إلى تعب ولا إلى سفر، ومثل ذلك الأشرطة التي يسجل عليها الخطاب الدعوي فقد آتت أكلها وأثبتت جدارتها وانتشرت في مشارق الأرض ومغاربها، ووصلت إلى أماكن لم يكن الإنسان يتصور أن تصل إليها بوجه من الوجوه، بل قد أصبحت ولله الحمد هواية لدى كثير من كبار السن المنزوين المنطوين يأخذ أحدهم عددا من الأشرطة فيكتفي بها عما كان يحصل قديما من استماعه إلى الأخبار السالفة والقصص الماضية، فيستمع إلى أشرطة مفيدة، ولعله يجد فيها ما يسد له فراغا ويسليه عن كبر سنه وضعف جسمه، أو يجد فيها كذلك ما يعينه على حسن خاتمته والتزامه بالشرع، كذلك الوسيلة الخامسة المؤثرة في الرأي العام وهي الصحبة، لا شك أنه لا بد أن يدخلها الخطاب الدعوي بقوة، فهذه الصحبة فريضة واقعية على البشر، فالإنسان بطبعه ميال إلى جنسه البشري، وقد جاء في تفسير ابن عباس في قول الله تعالى في سورة النمل: ﴿لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين﴾ هذا العذاب الشديد ما هو؟ فالهدهد طائر ضعيف، ما يمكن أن يكون العذاب الذي يهدد به صعق كهربائي أو ضرب بالعصي فهذا قتل له، وقد ذكر القتل في الذبح، فما هو هذا التعذيب؟ قال: الحبس مع غير الجنس، فحبس الإنسان مع غير جنسه عذاب شديد في حقه، ولذلك يقول محمدُّ بن محمدي رحمه الله تعالى: «آه لمغترب بالغرب ليس له** جنس وإن كان محفوفا بأجناس» فلهذا يحتاج الإنسان إلى مخالطة من هو على مستواه، وحينئذ لا بد أن يتأثر ويؤثر، ومهمة الخطاب الدعوي أن يكون هذا التأثر والتأثير إيجابيا، فإذا كان الإنسان يؤثر في الآخرين بصفاته المحمودة فيعاملهم معاملة حسنة ويخاطبهم خطابا مقبولا شرعا، ويشاطرهم المحبة والصدق، ويقدم لهم الخدمة التي يستطيع تقديمها وينفع من يستطيع نفعه فهذا لا شك سيؤثر وسيكون تأثيره إيجابيا، وكذلك تأثره هو بمن يخالطه إذا كان على هذا الوجه، فلا يتسرب إليه من كلام المخالط إلا ما كان محمودا مرضيا، فإذا مر باللغو أعرض عنه، وإذا خاطبه الجاهل قال سلاما، وقد بين الله ذلك في قوله: ﴿والذين لا يشهدون الزور وإذامروا باللغو مروا كراما﴾ وقال قبلها في هذه الآيات: ﴿وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما﴾ فهذا لا بد أن يكون تأثره تأثرا إيجابيا، لكن لا يستطيع الإنسان ذلك ما لم يُرفد بتقوية تعينه عليه، وهذا الرافد ينبغي أن يكون خطابا دعويا مستقيما، فأنتم تعلمون أن المجتمع الذي يعيش فيه الإنسان وبالأخص إذا كان في مثل مجتمعاتنا المختلطة اليوم لا بد أن يشهد فيه الإنسان كثيرا من الفيروسات الإيمانية والشُّبَه التي يسمعها من الآخرين فيتلقفها، والأقوال التي يسمعها وهي مغلوطة مكذوبة لكنها تنقش في تصوره لأنه سمعها من عدة أوجه، فهو محتاج إلى صمام أمان يرد الأشواك وما لا نفع فيه فيفصلها عن تصوره نهائيا، وأيضا يكون هذا الصمام شفافا بحيث لا يمنعه وصول الحق إليه، وقد بين الله هذا المنهج بقوله: ﴿فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب﴾ ﴿فبشر عباد الذين يستمعون القول﴾ فهذا مقتض لقابلية التأثير عندما يستمع الإنسان إلى القول أصلا، ثم بعد هذا فيتبعون أحسنه، لا يستكبرون عن الاتباع والتأثر لأن القول إنما يكون صوابا أو خطأ فإن كان صوابا فالاستنكاف عنه إعراض عن الحق، وإن كان خطأ فقبوله كذلك ركون إلى الباطل، لهذا لا بد من الاستماع إلى الحق ثم اتباع أحسنه، ﴿الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب﴾ وقد بين الله سببين لذلك السبب الأول غيبي من أمر الله وهو الهداية، ﴿أولئك الذين هداهم الله﴾ والسبب الثاني راجع إلى اجتهاد الإنسان وعمله ﴿وأولئك هم أولو الألباب﴾ معناه هؤلاء الذين أعملوا عقولهم فاستفادوا من تجاربهم واستطاعوا أن يكون تأثرهم إيجابيا حيث أعملوا عقولهم فأخذوا ما ينفعهم وتركوا ما يضرهم، وإذا أعمل الإنسان عقله في هذا الجانب في الانتقاء فإنه لن يكون منزويا عن الناس بالكلية لا يريد أن يؤثر ولا أن يتأثر، وفي المقابل أيضا لا يتأثر إلا بما كان صوابا صحيحا، وهذا الوجه الصحيح في التعامل مع الناس يحتاج فيه الإنسان إلى خطاب دعوي مؤثر يبين له ما ينبغي من المخالطة وما ينبغي من التأثر وما يستمع إليه من الأقوال وما يترك، فليس الإنسان كالدابة التي تقاد بزمامها، ولا هو كالحيوان المفترس كالوحوش التي لا يمكن أن تنقاد، إنما الإنسان كائن اجتماعي قابل لأن يؤثر ويتأثر، فلذلك لا بد فيما يتعلق بالصحبة والمخالطة أن يوجد الخطاب الدعوي الذي يسدد ويكون للإنسان محيطا يمنعه من الانحراف وتقويما لسيره في ذلك، والذين يسافرون إلى البلاد النائية فيخرجون من بيئاتهم ومحيطاتهم كالطلاب الذين يدرسون في الخارج مثلا، في أول خروجهم يشهدون الحاجة إلى مثل هذا النوع، لأنهم قد كانوا في بيئة تعودوا فيها على التبعية المطلقة، وخرجوا من عنق الزجاجة إلى الحرية المطلقة فجأة فوجدوا أنفسهم في بيئة قد تغيرت، وفي نمط حياة مخالف لما كانوا عليه، فهم أحوج ما يكونون إلى محيط جديد، يحيط بهم إحاطة السوار بالمعصم فيقيهم الشرور ويدلهم على الخير، ويقدم لهم التجارب الناجحة، ويساعدهم على تعدي العراقيل والعقبات، ولذلك لا ينسون فضل من يقوم بذلك في أول الأمر في وقت الحاجة إليه كذلك من ضوابط هذا الخطاب الدعوي أنه لا بد أن يبدأ فيه بالأوجه المتفق عليها قبل الأوجه المختلف فيها، فالمدعو أيا كان لا بد أن يشترك معك في كثير من القناعات والآراء، حتى لو كان يهوديا أو نصرانيا يشترك معك في بعض القناعات، فابدأ أولا بالمتفق عليه فإذا رسخ فقد حصلت أرضية للنقاش، وهذا النقاش يطلب فيه الإقناع وأن يكون من غير إرهاب، وأن يكون الآخذ به آخذا بحجة تبقى معه، وقد بين الله ذلك في كتابه بقوله: ﴿ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون﴾ فالبداية هنا كانت بالمتفق عليه ﴿قولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون﴾ فهذه أمور متفق عليها بيننا وبينهم فنبدأ بها ثم بعد ذلك نصل إلى المختلف فيه ﴿ونحن له مسلمون﴾ فهذا مختص بنا نحن دونهم، وهكذا لا بد في المخالف من المسلمين أيضا أن يبدأ بعد نقاط الاتفاق بالمسلمات الكبرى بالأمور الجوهرية، فالأمور الصغرى التي يختلف فيها الناس وأكثرها راجع إلى الاجتهادات هي محل للاجتهاد في كثير من الأحيان ينبغي أن يؤخر البحث فيها فالخطاب الدعوي لا ينبغي أن يجعلها من الأولويات ولا من السوابق بل تقديمها حينئذ مقتض للتفرقة والميز ولا ينفع الدعوة شيئا ولا يقدم لها أية فائدة، فلذلك ينبغي أن يكون التركيز بعد نقاط الاتفاق على كبريات الأمور، وأنتم تعلمون أن المؤامرات الكفرية على الإسلام اليوم دائما تحاول شغل المسلمين بالجزئيات وبما لا نفع فيه، فيؤخرون الأهم ويبدؤون بالأدنى، فمثلا المفاوضات بين الفلسطينيين واليهود في فلسطين النقاط الكبرى والتي هي أهم وهي مسألة الحياة أو الموت منها قضية المسجد الأقصى لمن يكون؟ هل هو لليهود أو للمسلمين؟ هذه القضية إلى الآن ما نوقشت، إلى الآن لم تعرض على مجلس للنقاش ولا للمفاوضات، المسألة الثانية المهجرون من فلسطين وهم ستة ملايين مفرقون في العالم هل سيعودون إلى بلادهم أو يبقون مشردين مدى الحياة؟ هذه المسألة إلى الآن ما نوقشت، وهكذا المسائل الكبرى التي يمكن أن تفسد القضية وتنسفها من أساسها إلى الآن لم يصل إليها النقاش، وكل الاتفاقيات التي وقع عليها إلى الآن لم تتطرق لها، فهذا النوع من الأخطاء في البداية بالجزئيات وفي خارطة الطريق وفي صلاحيات السلطة، وفيما يتعلق بالتمويل وفيما يتعلق بالجهاز الأمني والتعاون.. الخ هذه أمور لو حصل الاتفاق على كل جزئياتها ثم جاء الخلاف في قضية من القضيتين السابقتين لنسف الجميع، فلماذا البداءة بها ولماذا التركيز عليها مع دناءتها وعدم فائدتها فيما يتعلق بالاتفاق، كذلك نظير هذا أيضا كثير من الجزئيات  التي يناقشها الناس وبالأخص المدارس الدعوية ذات الطرح المختلف المتباين، كمسألة الديموقراطية مثلا، فالمسائل الكبرى فيها يتعداها الناس ويبدءون في المسائل الجزئية وفي التفصيلات كما يتعلق بتجريح الأشخاص وموازين النقد ويتركون المسلمات الكبرى مثلا ما يتعلق بأصول التغيير، وما يتعلق بأصول الحكم، و ما يتعلق بواقع الناس وما يتعلق بالمنشود الذي ينبغي أن يكون بديلا هذه أمور كبرى يغفلها الناس في هذا المجال، فيبدءون بجزئيات هي تندرج في إطار هذه الكليات الكبرى ولو لم يبق من الخلافيات إلا هذه الجزئيات لما حصل الضرر، ولو اتفق أيضا على هذه الجزئيات فقط لما حسم النزاع، فلذلك لا بد من التحرر من الأوهام والتحرر كذلك من العيش مع الجزئيات في الأمر كله، والأخذ بكبريات الأمور ومسلماتها وأصولها، وإذا حصل الاتفاق على هذه الأصول وكبريات الأمور والمحسومات بالأدلة والقطعيات، فلا ضير في الخلاف في الاجتهاديات وهي أمور يقبل فيها الاجتهاد حينئذ، ويمكن أن يصطلح على إرجائها إلى فترة، وحينئذ إما أن يتبين الصواب لأحد الطرفين فيرجع إليه أو يجدوا وسائل لحسم النزاع بينهم، ولذلك فكل نقاش علمي لا بد قبله من تحضير وسيلة لفض النزاع، كل مجموعة من الناس يجمعها جامع لا بد أن تبدأ في أولى أولوياتها لما يحسم النزاع بينها، ما هو المرجع الذي يرجع إليه عند حصول النزاع، ولهذا جاء ترسيخ هذا المرجع في القرآن في عدد من الآيات ﴿يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا﴾ وفي قوله تعالى: ﴿وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم﴾ وفي قوله: ﴿إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله، وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه، إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله، فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم، لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا، قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا، فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم﴾ فلا بد إذن من التركيز على وسيلة فض النزاع، إذا حصل، وحتى في أمور الدنيا، فأمور الدين وسيلة فض النزاع فيها الرجوع إلى الدليل كما بينا من الكتاب والسنة، أما أمور الدنيا الاجتهادية وكذلك جزئيات أمور الدين التي لم يحسمها النص فالمرجع فيها حينئذ لا بد أن يكون محسوما من قبل، فإذا كان المرجع مثلا هو قول الأكثر كان الترجيح هو بكثرة الرواة كما يقول أهل الحديث، أو كان الترجيح بالكثرة الكاثرة من الحاضرين، وأيضا حتى في جزئيات هذه لا بد أيضا من بيان هل المطلوب الأغلبية البسيطة أو الأغلبية النسبية أو الأغلبية المطلقة، وكلها أغلبيات معروفة في القانون الدستوري مما تعارف الناس عليه، فكل ذلك مما يمنع حصول النزاع وتسربه بالكلية، كذلك في الحسم في الرأي في أي وجه من الوجوه، فالوسائل البدائية التي كانت موجودة لدى البشر في أي رأي من الآراء يصدرون عن أمر قائدهم أو كبيرهم وإذا خالفوه جميعا عدل إلى قولهم، أو خالفه أكثرهم عدل إلى قولهم، هذه قد تكون غير محمودة العاقبة كما قال دريد بن الصمة: «أمرتهمُ أمري بمنعرج اللوى** فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد** وما أنا إلا من غزية إن غوت** غويت وإن ترشد غزية أرشد» فلذلك لا بد أن تكون وسائل فض النزاع حاضرة في الأذهان متفقا عليها مسلمة من قبل، وفي كثير من النقاشات التي تحصل وبالأخص مع غير المسلمين دائما قبل بدء النقاش أشترط أن تكون مراجعنا واضحة، فقد أخذت العبرة من كلام نقله المبرد عن ابن عباس رضي الله عنهما في مناقشته للخوارج، عندما جلس إليهم وقد أرسله إليهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أراد قبل الدخول في أقوال الخوارج ومناقشتها أن يحقق الأرضية البينة، فقال: ما تنقمون من ابن عم رسول الله (ص) يقصد علي بن أبي طالب؟ فقالوا: ثلاثا، فقال: لا تنقمون غيرها، قالوا: لا، قال: أرأيتم لو بينت لكم بالدليل صحة ما هو عليه أترجعون إليه؟ قالوا: نعم، قال: فمن خالف منكم ذلك فماذا عليه؟ قالوا: لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، فقال: فما هي؟ قالوا: الأولى أنه محا اسمه من الخلافة، قال: ألم تعلموا أن رسول الله (ص) محا اسمه من النبوة في عقد الصلح مع سهيل بن عمرو يوم الحديبية فسكتوا، فقال: هذه واحدة فما الثانية؟ قالوا: هزم عدوه فلم يقسم الغنائم، قال: أرأيتم لو قسمت الغنائم ففي سهم أيكم ستكون أم المؤمنين عائشة مثلا؟ فجعلوا أيديهم على وجوههم استحياء من ذلك، فقال: هذه الثانية فما الثالثة؟ قالوا: حكم الرجال في كتاب الله، فقال: أحرب أمة محمد (ص) وقتالها أعظم أم أرنب تقتل في الحرم؟ قالوا: بل أرنب تقتل في الحرم، قال: ألم يقل الله تعالى في سورة المائدة: ﴿يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما﴾ قالوا بلى، فأقام عليهم الحجة وألزمهم بهذه الأمور الثلاثة دون أن يطول النزاع ودون أن يتشقق، مع العلم أنه لو دخل معهم في الجزئيات فقد أوتوا جدلا، وسيطول الأمر ولن يقتصر على حد، ولذلك فما لم تبين النتائج من البداية وما لم تؤخذ الضوابط العامة قبل الدخول في النقاش فسيكون جدلا بيزنطيا لا نهاية له، لأنه كثيرا ما يؤدي أيضا إلى الخروج عن محل النزاع ويبقى النقاش في أمر آخر لا علاقة له بالموضوع، ويكون التنقل بين موضوع وموضوع آخر، وهذا النوع من المحذورات لدى الأصوليين، فالأصوليون عندما وضعوا قواعد الجدل جعلوا من أعظمها ما يتعلق بالتحكم والمصادرة والخروج من المسألة، أن تكون المسألة التي هي محل النزاع مثلا هل المسكر من غير العنب مثلا محرم أم لا، فإذا نوقشت هذه المسألة فتشعب النزاع حتى وصل إلى علة تحريم الخمر مثلا، هل هي الإسكار أو غير الإسكار فهذا خلاف في غير محل النزاع، ولا يؤدي إلى النتيجة المطلوبة نفسها، وهكذا، فلذلك لا بد في ضوابط الخطاب الدعوي أن يكون متقيدا بأرضية صلبة للنقاش متفق عليها بين الطرفين، كذلك من ضوابط هذا الخطاب أن يكون أيضا على كل ما سبق متجردا فيه صاحبه من كل عواطفه وأهوائه، فالإنسان إذا كان يتصرف أو يقدم خطابه على أساس حميَّته أو غيرته فسيكون دائما متعصبا لمجموعته أو مدرسته وهذا مخالف لأدبيات الخطاب الدعوي العام، فلا بد أن يجتهد الإنسان في أن يكون خطابه الذي يقدمه مجردا من العاطفة، فلك ما تحب، وضع حبك حيث أردت، لكن مع ذلك لا تصادر آراء الآخرين ولا تصادر عواطفهم، واعلم أن الأمر أوسع مما ذكر، ولذلك أذكر أن اثنين قد تخالفا في مسألة من مسائل الدعوة قديما، فحضر شيخ من المشايخ فسمع كلامهما، فلما رأى حدة كل واحد منهما في رأيه واتباعه لعاطفته، قال: يا أخوي إن الجنة واسعة عرضها السماوات والأرض، فتتسع لأهل هذا الرأي ولأهل الرأي الآخر، فإذا أدرك الإنسان ذلك وتبين له أن مجرد المصادرة وأن يقال هذا هو القول الصحيح وهذا هو الذي نأخذ به وهذا الذي يراه فلان وفلان من الناس خرج المجال عن أن يكون خطابا دعويا مؤثرا بل أصبح تقليدا أعمى وأصبح تعصبا لطائفة أو لفريق من الناس، وأصبح كذلك مصادرة كما يحصل لكثير من المتعصبين فتسمع أحدهم مثلا يقول: الحافظ ابن حجر ليس من أهل السنة، وقد سمعت بعض من سئل عن الحافظ بن حجر فقال ليس من أهل السنة فسألته فقلت: ما هي السنة يا أخي، قال: قول النبي (ص) وفعله وتقريره، قلت: إذا كان الحافظ ليس من أهل قول النبي (ص) ولا فعله ولا تقريره فلست أنت منهم قطعا، فلذلك لا بد أن يدرك الإنسان هنا خطر المصادرة، وخطر عدم التجرد من العاطفة، كذلك في هذا المجال أيضا لا بد أن يعلم الإنسان التفريق بين ثوابت الشرع ومتغيراته، لا بد أن يعلم أن الشرع منه وحي منزل معصوم، ومنه آراء رجال تقبل الصواب والخطأ، وهذه الآراء ليست مسلمة بالضرورة في كل شأنها، بل هي خاضعة للنقاش كما قال مالك: رحمه الله: ما منا أحد إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر، وسامحونا فقد عاملناكم بذكاة الحية بقطع رأسها وذنبها، مضطرين إلى ذلك ولعل العوض إن شاء الله في الدروس القادمة.

 

السبت, 11 ديسمبر 2010 18:09
 

آخر تحديث للموقع:  الجمعة, 12 أبريل 2024 20:59 

النتائج النهائية لمسابقات دخول المركز

اشترك في القناة

موقع مركز تكوين العلماء

برامج تلفزيونية

جديد الموقع

إحصائيات

المتصفحون الآن: 26 

تابعونا علــــى:

تابِع @ShaikhDadow