الإخلاص في العمل

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أما بعد فإن الإنسان كائن شريف على الله سبحانه وتعالى، وقد خص بكثير من الخصائص التي تقتضي منه الاستقلال وعدم الخنوع والخضوع للآخرين، وإنما يتحرر من أغلال العبودية للآخرين بتوحيده لله سبحانه وتعالى وعبوديته له، فمن كان عبدا لله حقا لم تكن عليه عبودية لغير الله جل جلاله، ومن هنا احتاج الإنسان إلى تعلم الإخلاص في عمله، وأن يقصد وجه الله الكريم بكل تصرفاته، وقد أمره الله بذلك

وهذا يقتضي من الإنسان أن يؤدي ما أمر به من الإخلاص لله سبحانه وتعالى فيقصد وجه الله والتعبد له بكل أموره فيجعل هذه الدنيا محرابا كبيرا للتعبد، فيحتسب في نومته ما يحتسب في قومته، ويؤدي حقوق الله جل جلاله خالصة له ليس فيها رياء ولا سمعة ولا طلب مصالح دنيوية، وهكذا في كل أعماله، وسيقسم عمله إلى قسمين إلى حسنة للمعاد ودرهم للمعاش، أما حسنة المعاد فهي ما يريد به تثقيل موازين حسناته الأخروية، ولا بد فيه من معرفة حكمه أولا قبل الإقدام عليه ثم بعد ذلك إلى تطبيق حكمه على نحو ما شرع، فلا يحل للإنسان أن يفعل فعلا حتى يعلم حكم الله فيه، ومن هنا كان العلم سابقا على العمل كما قال الله تعالى:

كذلك من أسباب الإخلاص لله سبحانه وتعالى التطلع إلى ثوابه، فمن عرف ما عند الله سبحانه وتعالى من الخير وما أعد من الثواب للمحسنين ومنه رضوان الله الأكبر وإدخاله في جنات النعيم وكذلك لذة النظر إلى وجه الله الكريم والحسنى والزيادة، فكل ذلك مدعاة لأن يخلص لله سبحانه وتعالى، ونظير ذلك أيضا معرفته بما أعد الله لمن عصى أمره من العذاب الأليم في نار الجحيم فهو أيضا مدعاة للإخلاص لله سبحانه وتعالى، والازدياد من خوفه ورجائه بما يقتضي الإخلاص له وعدم مراعاة من سواه، وكذلك فإن من أسباب الإخلاص لله سبحانه وتعالى أن يدرك الإنسان أن من أخلص لله سبحانه وتعالى فعمله تام، ومن نقص إخلاصه فينقص عمله بقدر ذلك، والإنسان حريص على الربح في تجارته وهو يعلم أن عمله تجارة، فلذلك لا بد أن يحرص على تمام عمله وأن لا ينقص منه شيئا، ونقصه له بالرياء أو بالسمعة أو بطلب المنافع الدنيوية أو قصد وجه الناس ربما أبطله بالكلية وربما نقصه أيضا، فالعمل الذي راءى فيه صاحبه وقصد به أوجه المخلوقين ولم يقصد به وجه الله فهو مردود مطلقا على صاحبه كما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يرويه عن ربه عز وجل: أنا أغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه

وقد اختلف العلماء هل هو مبطل للعمل كله أو مبطل لأجره دون أدائه الدنيوي، وعموما فالعمل ينقسم إلى أربعة أقسام، إلى عمل نافع في الدنيا والآخرة وهو الذي جمع فيه الإنسان بين مقتضيات الشهادتين، فأخلص فيه لله سبحانه وتعالى وتابع فيه ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عنده، فهذا العمل نافع في الدنيا لأنه مسقط للتكليف ومحرز به صاحبه الأداء والإجزاء فلا يحتاج إلى إعادة ولا قضاء، ونافع كذلك في الآخرة لأنه يثاب عليه صاحبه ثوابا كاملا غير منقوص الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، والقسم الثاني من العمل ما لا ينفع في الدنيا ولا في الآخرة وهو ما لم يتحقق فيه مقتضى الشهادتين فلم يخلص فيه صاحبه لله بل قصد به أوجه المخلوقين قصد به الرياء أو السمعة أو الفخر أو الذكر بين الناس، وكذلك لم يتابع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يأت به على الوجه الشرعي، كمن صلى يرائي الناس بصلاته وهو على غير طهارة يري الناس أنه يصلي، أو صام في الظاهر فإذا خلا بنفسه خرق صيامه، أو قام بالعمل في الظاهر يبديه للناس وهو في الباطن ينقضه ويبطله، فهذا النوع من العمل لا ينفع في الدنيا لأنه غير مجزئ وغير مسقط للخطاب بالأداء، وهو كذلك غير نافع في الآخرة لأنه مردود على أصحابه لعدم الإخلاص فيه لله جل جلاله.

والقسم الثالث ما هو نافع في الآخرة دون الأولى، أي ينفع في الدار الآخرة ولا ينفع في الدنيا، وهو العمل الذي تحقق فيه الإخلاص ولكن نقصت فيه المتابعة، كمن صلى بغير وضوء ناسيا مثلا، أو خالف بعض أحكام الصيام جاهلا بحكمها، فيكتب له أجر هذا العمل في الآخرة ولكنه يلزمه قضاؤه، فمن صلى على غير طهارة ناسيا فإنه يلزمه الأداء إذا كان في الوقت والقضاء إذا كان الوقت قد خرج، وكذلك من صام من غير نية جهلا مثلا ولم يتناول مفطرا ولكنه نسي تبييت النية أو جهلها فهذا العمل مكتوب له أجره عنه الله سبحانه وتعالى في الآخرة ولكنه لا يجزئه في الدنيا فلا بد من قضائه لأنه لم يؤده على الوجه الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد.

والقسم الرابع من أنواع العمل ما هو نافع في الدنيا لا في الآخرة، وذلك هو العمل الذي نقص فيه الإخلاص ولكنه حصلت فيه المتابعة، وهذا على القول الراجح في المسألة، فمن صلى مرائيا ولكنه أحسن صلاته فأداها على وفق صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فأحسن وضوءه وصلى في الصف الأول وأدى الصلاة على هيئاتها وأركانها وشروطها، ولكنه لم يكن مخلصا لله سبحانه وتعالى بل كان مرائيا ومسمعا فهذا العمل يجزئه في الدنيا فيسقط عنه التكليف ولا يلزمه إعادة تلك الصلاة ولا قضاؤها، ولكنه غير نافع في الآخرة لأنه لم يقصد به وجه الله الكريم، وهكذا في كل الأمور.

وهذا الإخلاص من أراد أن يتعرف على خطره وأهميته فليستمع إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: ألا أخبركم بالنفر الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار قالوا: بلى يا رسول الله، قال: رجل علمه الله العلم فمات فدعاه فعرفه نعمته عليه فعرفها فقال له: فما عملت فيها، فقال له: تعلمت فيك العلم وعلمته

وكذلك في كل مجالات العبادة كالدعوة مثلا فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن رجلا كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فيجاء به يوم القيامة فيرمى في النار، فتندلق أقتابه أي أمعاؤه فيد

وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، إمام عادل وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه.

وهذا الإخفاء للعبادة وعدم السعي لاطلاع الناس عليها لا يمنع أيضا أداءها في الجماعة ولا أداءها بين الناس أو إظهارها بقصد الدعوة والتعليم، فذلك غير مناف للإخلاص لقول الله تعالى:

وكذلك من مظاهر الإخلاص عدم التمدح بها وعدم حب الإنسان لأن يحمد بما لم يفعل، فحب الإنسان لأن يحمد بما لم يفعل مناف للإخلاص، وكذلك عدم المن بها، فمن كان من أهل المن إذا قدم خيرا م

وكذلك من مظاهر الإخلاص لله سبحانه وتعالى إتقان كل عمل تولاه الإنسان ولو لم يكن تحت الرقابة، فإذا كان في وظيفة وظف عليها وائتمن عليها أداها على أحسن الوجوه ولو لم تكن الرقابة حاضرة ولو لم يكن تحت سطوة القانون، وكثير من الناس إذا تولوا على أعمال لم يؤدوها إلا بقدر ما يتخلصون به من سطوة القانون، فإذا خلصوا من الرقابة تفلتوا وفرطوا في أعمالهم ولم يؤدوها على الوجه الصحيح لأنهم عبيد العصا تعودوا على الخوف من سطوة القانون فقط، ولم يخلصوا لله سبحانه وتعالى ولم يقصدوا وجهه الكريم

أما من كان مخلصا لله سبحانه وتعالى فهو لا يبالي الرقباء حضروا أو غابوا وهو مغن عن المتابعة قائم بالعمل على أحسن الوجوه سواء شعر به أو لم يشعر الناس به، ولذلك ثبت في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ألا أخبركم بخير الناس منزلا رجل أشعث أغبر رأسه مغبرة قدماه إن كان في الساقة كان في الساقة، وإن كان في الميمنة كان في الميمنة وإن كان في الميسرة كان في الميسرة وإذا استأذن لم يؤذن له وإذا شفع لم يشفع.

فهذا في غاية الإخلاص ونكران الذات والتفاني في العمل، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإتقان كل عمل وليه الإنسان، قال: رحم الله امرأ إذا ولي عملا أتقنه، فكل عمل يتولاه الإنسان سواء أخذه بأجرة أو بغير أجرة من نصيحته لله ولرسوله وللمؤمنين أن يتقنه، وقد أخرج مسلم في الصحيح من حديث أبي رقية تميم بن أوس الداري رضي الله عنه أن النبي صلى الله قال: الدين النصيحة قلنا لمن قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، وأخرج البخاري في الصحيح من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة فشرط علي: والنصح لكل مسلم.

وهذه النصيحة هي مظهر من مظاهر الإخلاص وأداء الحق الذي على الإنسان لله سبحانه وتعالى طيبة به نفسه، وكذلك من مظاهر إخلاص الإنسان أن يحمد على كل أحواله وأن يؤديها ولا يمل منها، فالذي يمل من العبادة أو يؤديها بمشقة وعنت، أو إذا أداها لم يستشعر أنها نعمة فلم يشكر النعمة لله سبحانه وتعالى على أدائها، ولم يشكر الله على توفيقه لأدائها ولا على إحسانها، ولم يقل الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، ولم يقل ما قال ابن رواحة:

تالله لولا الله ما اهتدينا فهذا ناقص الإخلاص لله سبحانه وتعالى ولذلك يمل العبادة، وينقطع عنها، وكثير هم أولئك الذين يوفقون لبعض الطاعات ولترك بعض المعاصي، في رمضان نعمة من الله سبحانه وتعالى وابتلاء ولكنهم لا يستشعرون النعمة، فيملونها ويستطيلون شهر رمضان ويستطيلون القيام والصيام ويتذمرون من ذلك فلا يكونون مخلصين لله سبحانه وتعالى، أما من أحب الطاعة وذاق طعمها كالذي يستريح بالصلاة وبالصيام ويشتاق إلى رمضان ويقول: اللهم بلغنا رمضان قبل مجيئه ثم يسأل الله أن يتقبله منه إذا جاء، فهذا مظهر من مظاهر الإخلاص والصدق لله سبحانه وتعالى.

وكذلك من مظاهر الإخلاص دفاع الإنسان لحظوظه النفسية، فكثير من الناس تدعوه نفسه لعدم الإخلاص في عمله أيا كان ذلك العمل فإذا صام يحب أن يطلع الناس على صيامه ويحب أن يروا أعماله، وإذا قام كذلك أحب أن يطلعوا على أموره، وإذا دعا أحب أن يستجيبوا لدعوته وهكذا في كل تصرفاته وهذا أمر باطني وهو من حظوظ النفوس التي لا بد من علاجها فالنفس أمارة بالسوء، وتغلب الإنسان على نوازعه وعلى ما لنفسه من الحظوظ مظهر من مظاهر هذا الإخلاص، وهو معين كذلك على إتمام العمل على أحسن الوجوه، وتذوق طمعه، فمن لا يتذوق طعم العبادة لا يكون من المحبين لها، وقد قال الله تعالى:

وكذلك فإن من مظاهر الإخلاص لله سبحانه وتعالى ما يظهر على صاحبه عند تحققه لحصول خطإ فيه من الانكسار والخوف أن لا يتقبل الله منه، فكثير هم أولئك الذين يؤدون كثيرا من الطاعات، ولكنهم لا يخافون من عدم قبولها، فيجزمون بالقبول ولا يخشون الرد، وهؤلاء إخلاصهم ناقص، أما الذين يؤدونها وهم يخافون خوفا شديدا ألا يتقبلها الله منهم هذا دليل على إخلاصهم، ولذلك قال الله تعالى:

وقد جاء في الحديث الصحيح أن رجلا من بني إسرائيل قال: لأتصدقن الليلة بصدقة، قال ذلك في نفسه وهو صاحب إخلاص لله سبحانه وتعالى، فأخذ صدقة من حر ماله فذهب بها فوضعها في يد سارق، فأصبح الناس يتحدثون تصدق الليلة على سارق، فقال: لك الحمد على سارق، ثم قال: لأتصدقن الليلة بصدقة، فأخذ صدقة من حر ماله فوضعها في يد زانية، فأصبح الناس يتحدثون تصدق الليلة على زانية، فقال: لك الحمد على زانية، ثم قال لأتصدقن الليلة بصدقة فأخذ صدقة من حر ماله فخرج بها فوضعها في يد غني فأصبح الناس يتحدثون تصدق الليلة على غني فقال: لك الحمد على غني، فأرسل الله إليه ملكا أو أرصد له ملكا، فقال: لقد تقبل الله صدقتك، أما الصدقة على السارق فإنها تكفه عن سرقته فما سرق إلا لحاجة، وأما الصدقة على الزانية فإنها تكفها عن زناها فما زنت إلا لحاجتها، وأما الصدقة على الغني فإنها تنبهه إلى الصدقة وتدله على تقصيره، فكان ذلك فرحا بما قدمه من الطاعة وخشية من عدم القبول، فقد تقبل الله منه وكان ناجحا في امتحانه لصدق

وهذا الإخلاص له آثار طيبة على النفوس منها صقل البصيرة وإنارتها، ومنها استجابة الدعاء، ومنها كذلك زكاء العمل ونماؤه، فمن كان صادقا في عمله مخلصا فيه كان عمله أزكى وأنمى عند الله سبحانه وتعالى، فلذلك جاء في الحديث الصحيح إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وما تصدق امرؤ من كسب طيب إلا كان كأنما وضعها في يمين الرحمن فلا يزال ينميها له كما ينمي أحدكم ف

وللإخلاص كذلك أثر كبير في صلاح الذرية وصلاح الأهل، فمن كان مخلصا لله سبحانه وتعالى جمع له شمله وأصلح له ذريته، وفيه أثر كذلك على الإنسان في استغنائه عن المخلوقين وإبداء فقره لله وحده، وعدم تعلقه بالمخلوق أيا كان، نسأل الله تعالى أن يرزقنا الصدق والإخلاص وأن يتقبل منا صالح الأعمال وأن يجعل ما نقوله ونسمعه حجة لنا لا علينا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

السبت, 11 ديسمبر 2010 17:53
 

آخر تحديث للموقع:  الجمعة, 12 أبريل 2024 20:59 

النتائج النهائية لمسابقات دخول المركز

اشترك في القناة

موقع مركز تكوين العلماء

برامج تلفزيونية

جديد الموقع

إحصائيات

المتصفحون الآن: 28 

تابعونا علــــى:

تابِع @ShaikhDadow